خلال الزوبعة الأولى و التي أعقبت نشر المقال المسيء لسيد الخلق عليه أفضل الصلاة و السلام، ظهرت صفحات تتبنى (الإلحاد) يتحدث محركوها عن إيمانهم بالعقل وحده و أنه مرجعيتهم و أن لا شيء في حياتهم كخالق أو آلهة فوق العقل، دخلتُ نقاشا أو على الأصح جدلاً مع أحدهم انطلاقا من إيمانه بعقله؛ سألته ما الفرق عنده بين العقل و الروح التي بين جنبيه؟ كان رده سريعا؛ أن الروح هي الحياة و أن العقل (آلهة) لا تشبه آلهتي على حد قوله!
سألته عن العقل؛ هل هو تَبَعٌ للروح أم العكس؟ كان جوابه أن لا ترابط بين الإثنين و أن كل واحد منهما مستقل عن الآخر ….
سألته؛ هل يولد (العقل) مع صاحبه؟ ، قال نعم ! ( آلهة تولد و نموها مرهون بنمو صاحبها، و قد ينمو هو و تبقى هي!)
سألته؛ هل يؤمن بالموت : قال نعم، سألته: هل بموت الإنسان يموت العقل و الروح معا، قال؛ تخرج الروح من الجسد و يتعطل العقل ( آلهة تتعطل!) و (روح دون آلهة!).
سألته أخرى: و من يخرج الروح من الجسد و من يعطل العقل ؟ قال ؛ إنها قوانين الطبيعة ..… سألته: و من أين للطبيعة بهذه القوانين؟ قال: صدفة !!!
سألته و هل حدثت لك صدف في حياتك؟ قال نعم و هي كثيرة جدا …. و هل في الحياة غير الصدف؟ قال نعم .. قلت له انظر الى السماء و تأمل و أجبني؛ هل تشبه السماء الصدف؟ ماذا عن الشمس و القمر و الليل و النهار ….. هل يمكن أن يكون هذا البناء المتناهي في العظمة و الجمال صدفة؟ ماذا يمسك هذا البناء أن يقع على الأرض؟ و هل تجد في عقلك (الآلهة) ما يسع هذه العظمة و يدرك حجم القوة التي تدبر شؤونها ؟
سألته أخرى؛ هل تستطيع أن تميز لي نوع الصدفة التي جمعت بين آلهتك (العقل) و الدم الذي يجري في جسدك؟
أيها الآدمي: هل من الصدف أو يمكن أن يكون منها أن وجود آلهتك (العقل) مرهون بوجودك، و أي آلهة تدبر شأن المجنون (فاقد الآلهة!)
انظر من حولك لترى اختلاف الناس ألسنةً و ألوانا، و الأنعام و الماء و الهواء و الجبال الراسيات و الفُلك التي تجري في البحر و اختلاف الليل و النهار …… كم من صدفة نحتاج لتسيير هذه الشؤون العظيمة و كم آلهة تموت و تحيى في هذا السبيل؟!
لما أمطرته بهذه الأسئلة قام بحظري مباشرة !!!
حينها أدركت أن العقل الذي يؤمن به لم يسعفه لمجاراة أسئلتي و أنه خاف على نفسه من “الردة “عن الإيمان بعقله المحدود !
تأسفت كثيرا على انقطاع التواصل معه، و سألت نفسي؛ ما الذي يدفع هؤلاء الشياب للارتماء في أحضان ضيقة كهذه، و ما الذي يسوقهم للخروج من سعة إيمانهم إلى ضيق عقولهم المتناهية في الصغر؟!
كان من فضول التفكر في هذه الحادثة أن خطر ببالي أن أطرح سؤالا على أقرب مجيب عن (الإلحاد) و أهله، فسألت النابغة غوغل فكان جوابه كالتالي:
“الإلحاد هو بمعناه الواسع رفض الاعتقاد أو الإيمان بوجود الآلهة، و في المعنى الضيق يعتبر الإلحاد على وجه التحديد الجزم أنه لا توجد آلهة، و عموما يعني مصطلح الإلحاد غياب الإعتقاد بأن الآلهة موجودة، و يتناقض هذا الفكر مع فكرة الإيمان بالله أو الألوهية، إذ أنّ مصطلح الألوهية يعني الاعتقاد بأنه يوجد على الأقل إله واحد.
و لقد تمت بلورة مصطلح الإلحاد عقب انتشار الفكر الحر و الشكوكيّة العلميّة، و ازدياد التيارات الفكرية في نقد الأديان، حيث مال الملحدون الأوائل إلى تعريف أنفسهم باستخدام كلمة “ملحد” في القرن الثامن عشر خلال عصر التنوير، و شهدت الثورة الفرنسية أول حركة سياسية كبرى في التاريخ للدفاع عن سيادة العقل البشري فضلًا عن تيار من الإلحاد لم يسبق له مثيل!
و تتراوح الحجج الإلحادية بين الحجج الفلسفية إلى الاجتماعية و التاريخية، حيث أن المبررات لعدم الإيمان بوجود إله تشمل الحجج و أن هناك نقص في الأدلة التجريبية، و على الرغم من أن بعض الملحدين تبّنى فلسفات علمانية (مثل الإنسانية والتشكك)، إلاّ أنه ليس هناك أيديولوجية واحدة أو مجموعة من السلوكيات التي يلتزم بها جميع الملحدين، كما ليست هناك مدرسة فلسفية واحدة تجمع كل الملحدين، فمن الملحدين من ينطوي تحت لواء المدرسة المادية أو الطبيعية و الكثير من الملحدين يميلون باتجاه العلم و التشكيك خصوصاً فيما يتصل بعالم ما وراء الطبيعة، و يقول بعض الملحدين بأنه ليس هناك عناد بين الإلحاد و دين البوذية لأن البوذيين أو بعضهم يعتنقون البوذية ولكنهم لا يعتقدون بوجود إله.
بينما يرى كثير من الملحدين أن الإلحاد هو نظرة أكثر صحة من الألوهية، و بالتالي أن عبء الإثبات يقع ليس على عاتق الملحد لدحض وجود الله، ولكن على المؤمن بالله تقديم مبررات للإيمان به حسب قولهم.
و بسبب تعدد مفاهيم الإلحاد من الصعب معرفة التقديرات الدقيقة عن الأعداد الحالية للملحدين، و قد أجريت عدة استطلاعات عالمية شاملة حول هذا الموضوع أبرزها استطلاع قامت به مؤسسة "غالوب" الدولية سنة 2015 حيث شارك في الاستطلاع أكثر من 64,000 مشارك، أشار منهم 11% أنه “ملحد بقناعة” في حين كانت النتيجة سنة 2012 في استطلاع سابق 13% من أفراد العينة عرفوا عن أنفسهم أنهم “ملحدون بقناعة ”، و بحسب مسح من قبل هيئة الإذاعة البريطانية، في عام 2004 ، وجد أن نسبة الملحدين كانت حوالي 8% من سكان العالم.
ووفقًا لدراسات أخرى، فإن معدلات الإلحاد هي الأعلى في أوروبا وشرق آسيا: 40% في فرنسا ، و39% في بريطانيا ، و34% في السويد، و29% في النرويج، و 15% في ألمانيا، و25% في هولندا، و 12% في النمسا، حيث أجابوا أنهم لا يؤمنون بأية أرواح أو آلهة أو قوة خارقة، و نسب أعلى لمن عبروا عن إيمانهم بوجود روح أو قوة ما وهؤلاء يطلق عليهم لادينيون أو لا أدريون.
و بلغت النسب في شرق آسيا : 61% في الصين، و 47% في كوريا الجنوبية بينما اليابان حالة معقدة إذ يتبنى الفرد أكثر من معتقد في و قت واحد و في أميركا الشمالية، 12% في الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم ملحدين و 17% لا أدريين و 37% يؤمنون بوجود روح ما و لكنهم لا دينيون، و 28% في كندا.”
بعد الانتهاء من هذه السانحة التي تفضل بها غوغل اكتشفت أن مفهوم (الإلحاد) ملتبس حتى على من ينسبون أنفسهم إليه و على كثير ممن يتحدثون عنه و أن مجادلي ليس ملحدا بالمعنى المتعارف عليه لأنه حدد له آلهة يُخضع لها أحقية البت في قبوله للأشياء أو رفضها، و هذه الحالة هي الأخرى موجودة و على نطاق قابل للنمو و التمدد، و تطرح نفس الأسئلة و بعمق عن حجم الفراغ الفكري و العقلي الذي يعيشه هؤلاء الشباب، و مدى تقصير العلماء و المفكرين و عقلاء الأمة في حق هذا الجيل الذي وجد أمامه بناء منهارا و أحصنة متصدعة و حراسا وهميين للعقيدة لا يلبون في غالبيتهم حاجة هؤلاء المساكين من الأمن على عقولهم و عقيدتهم المحاطة بكثير من عوامل التشكيك و محاولات الاجتثاث !
علينا أن ننظر بجدية إلى مكامن الخلل و إلى مصادر الخطل و مواطن العطل، فالعلم ليس منافيا مطلقا للاعتقاد بوجود خالق و مدبر للكون، بل يؤكد العلم بين الفينة و الأخرى تشبثه بقوانين متسقة مع الإيمان بالله تعالى و قدرته اللامتناهية على الخلق و التدبير، كما لا يخفى أن العقل هو أعظم وسيلة لإدراك معاني الآيات الكونية المتمثلة في التناسق الخارق و الإعجاز الفارق في مكونات الطبيعة و الكون، إلا أن ممارسات المسلمين اليوم و بُعدهم عن التشبث بقيم الإسلام و خلاله الأخلاقية و خصاله العدلية و رحمته الواسعة و شفقته و طهارته و نظافته و عفته، جعلت الدين عرضةً للمساءلة نيابة عنهم، و محل تشكيك بدلا منهم، فاختلط حابل الممارسة بنابل الجهل و الفراغ، و حتى الحيرة و عدم وجود حواضن تتكفل بتلبية حاجات المحتارين من الحجج و تُزيل عوزهم الفكري !
العلماء و الباحثون و جميع العقلاء مطالبون اليوم بالانفتاح على جميع العوالم الواقعية و الافتراضية و التصدر المنظم المنسق لبيان ما بحوزتهم من الأمانات و الرد على الشبهات و تمييز المتشابهات و الخوض عن دراية في كل صغيرة و كبيرة و إقامة الحجة على الناس، فالإسلام وُجد ليكون ملجئا و منجى، جاء ليخرج الناس من عبادة العباد و الأوثان و الأوهام إلى عبادة رب العباد و من جور الحيرة و الشيطان إلى عدل الله الواحد المنان، و من ضيق العقول و النفوس إلى سعة القلوب التي في الصدور.
المسؤولية عظيمة و الأمر جلل يتطلب الحيطة و الحذر و الحكمة و المحاججة بالدليل و المقارعة بالتنزيل و الحزم في التأويل و الحذر الحذر من التحريف و التبديل، و اعلموا أن كل واحد منكم على ثغر، فلا يؤتين الإسلام من قبله، و كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته.