كلمات حول مظاهر الوسطية في الحضارة الإسلامية/ محم ولد الطيب

20. أكتوبر 2018 - 11:11

تعتبر الوسطية من أهم المفاهيم المركزية التي شكلت ملامح الحضارة الإسلامية في إشراقتها الحقيقية وهي التي أعطتها الميزة التي جعلتها تتصدر قائمة الحضارات الإنسانية من حيث التأثير و الفاعلية في التاريخ الأمر الذي جعل الوسطية تشكل نقطة الجذب المركزي لكثير من الباحثين ورجال الدين والفكر، ولكن رغم وفرة المعالجات التي صيغت حولها لاتزال غامضة في أذهان الكثيرين وفي مسيس الحاجة لمزيد من الدراسة والتحليل والتشريح المتئد المستند إلى العقل الوثَّاب، ومرد ذلك الاهتمام البالغ هو ما ولده التناقض المصطنع بين ما تزخر به النصوص الدينية قرآنا وسنة من تعاليم تبين سماحة الإسلام ووسطيته في شتى المجالات، وبين ما شهده التاريخ الإسلامي من تناقضات تعارضت مع المبادئ السامية التي أرستها النصوص الدينة ودعت إليها، ولهذه الأسباب وغيرها كانت دراسة الوسطية والحديث عن تحديد معالمها وإظهار تجلياتها عملية أمرا ضروريا لاسيما في زمننا اليوم الذي شهد موجات متسارعة من الغلو والتطرف الديني في بعض الحالات، فماهي الوسطية؟ وفيما تتجلى ملامحها ومظاهرها في رحاب الحضارة الإسلامية؟

تعريف الوسطية

يعرف محمد المختار الشنقيطي الوسطية تعريفا شموليا في كتابه "فيلسوف القرآن محمد عبد الله دراز بقوله إن الوسطية موقف فكري وعملي يجمع بين تقديس الحق ورحمة الخلق، وهي موقف تركيبي يدرك صاحبه نسبية الفهم البشري للوحي المنزل فيجمع بين العقل والنقل ويصحب كل قوم على أحسن ما عندهم ويتعامل بإنصاف مع المخالفين."

ويقسم الشنقيطي الوسطية إلى شقين شق اجتناب وشق استيعاب، وقد عبر عن فكرة هذين الشقين للوسطية أحسن تعبير كل من عبد الرحمن بن الجوزي والدكتور يوسف القرضاوي، فقد تناول ابن الجوزي فكرة الوسطية في شقها الاجتنابي عبر ستة تحذيرات لخص فيها أمهات الانحرافات المنهجية في الثقافة الإسلامية فقال احذر جمود النقلة وانبساط المتكلمين وجموح المتزهدين وشره أهل الهوى ووقوف العلماء على صورة العلم من غير عمل والمتعبدين بغير علم.

أما الشيخ القرضاوي فقد جمع أطراف الوسطية في شقها الاستيعابي فدعا إلى الانتفاع بأفضل ما في تراثنا المتنوع من ضبط الفقهاء وتأصيل الأصوليين وحفظ المحدثين وعقلانية المتكلمين وروحانية المتصوفين ورواية المؤرخين ورقة الأدباء وأخيلة الشعراء وتجارب العلماء.

ومن خلال هذين الشقين تكتمل صورة الوسطية الإسلامية كموقف ومنهج فكريين في التعامل مع المخالفين بإنصاف بالقدر يكفل لنا الانتفاع بما عند الجميع بعد غربلة هدفها استكناه الأنفع واجتناب الأسوأ.

ولما كانت الوسطية كما أسلفنا موقفا ومنهجا فإنه يحسن بنا قبل أن نبين ملامحها في رحاب الحضارة الإسلامية أن ننوه إلى أنها أولا منهج للفرد والمجتمع المسلم يسير على هديه في الدين والأخلاق والسياسة وفي السلوك بشكل عام وذلك ما نجده حاضرا في نصوص القرآن والسنة.

كما ينبغي أن لا يفوتنا الإشارة كذلك إلى أمر بالغ الأهمية مفاده أن الوسطية التي نتحدث عنها هنا ليست تصورا فلسفيا فقط يبتغي صاحبه سرد الفضائل وتصنيفها نظريا وبشكل مجرد يعتمد الوسط بين طرفين كلاهما شر أحدهما بسبب الإفراط والآخر بسبب التفريط كما فعل أرسطو في نظرية الأوساط، فالشجاعة مثلا وسط بين الجبن والتهور والكرم وسط بين البخل والإسراف، وإنما هي موقف عملي يتدرج من كونه خاصية ملازمة للحضارة الإسلامية، إلى أسلوب حياتي قويم يوجه حياة المسلم ويقوده، إلى لازمة من لوازم الإصلاح الفكري والعملي وأداة طيعة للوقوف أمام موجات الغلو والتطرف.

ملامح الوسطية في الحضارة الإسلامية

ما يميز الحضارة الإسلامية عن الحضارات الإنسانية الأخرى هو وسطيتها في كل المجالات ذات الطابع العملي والفكري وهذا ما سأبينه هنا من خلال عدة ثنائيات تميزت فيها الحضارة الإسلامية بطابع وسطي ولعل أهم تلك الثنائيات:

المادة والروح

ففي بعض الحضارات يغلب الطابع المادي حتى ليصبغ الروحانيات بصبغته كما نلحظ في الحضارة الأوروبية قديما وحديثا، وفي البعض الآخر الإغراق في الروحانيات كما نلحظ في تراث الهند الحضاري أما الحضارة الإسلامية فإن الموقف المتوازن الذي يوازي بين القطبين هو جوهر ما يميزها.

العقل والنقل

الوسطية هي المميزة للحضارة الإسلامية حيال العقل والنقل، فعلى حين لا نجد للنقل مكانا مع العقل في الحضارة اليونانية ولا نجد للعقل مكانا مع النقل في الجانب الديني في الحضارة التي انطبعت بالطابع المسيحي أما الحضارة الإسلامية فتقيم دائما توازنا بين هذين السبيلين فالذين وقفوا عند ظواهر النصوص دون إعطاء العقل مجالا قلة والعكس صحيح.

الفرد والمجتمع

لا تعرف الحضارة الإسلامية الميل لأحد القطبين على النحو الذي يضر بالآخر فيعطل ملكاته أو يتيح الطغيان للنقيض بل ربطت مصلحة الفرد بالمجتمع وعلقت كلا منهما على الأخرى.

الحرب والسلم

لقد وازنت الحضارة الإسلامية بين الحرب والسلم، ففتوحات أمتها كانت في الجوهر تحريرا وإزاحة لموجات غازية عن ديارها ولم تكن البتة عدوانا ولعل هذا ما أشار إليه المستشرق الفرنسي غوتييه في كتابه أخلاق المسلمين وأعرافهم بقوله لم "يسعى المسلمون أبدا حتى في أوج حماسهم الديني إلى إطفاء عقائد الآخرين بالدماء".

العمل الذهني والعمل اليدوي

لقد وازنت الحضارة الإسلامية بين العمل الذهني والعمل اليدوي على نحو باعد بين موقفها وموقف حضارة اليونان، فعلى حين قدست الأخيرة العمل الذهني واحتقرت العمل اليدوي الذي قصرته على الرقيق نجد الحضارة الإسلامية توازن بينهما حتى لتكاد تمزج بينهما على اعتبار أن كل عمل شرف.

التكوين الكلي والتكوين الجزئي

لم تهتم تعاليم الحضارة الإسلامية في مجال الإنسان بجانب من جوانب الشخصية الإسلامية على حدا بل اعتنت بالجوانب كلها، فلم تهتم بتنمية الروح على حساب الجسد ولا بالجسد على حساب الروح.

إن طابع الوسطية هو الذي ميز حضارة الإسلام وجعلها تتخطى حدودا بعيدة لتستحوذ على وجدان وعقول أمم أخرى دون استئذان عن طريق الأساليب المتزنة في السلوك والفكر والتي وجدت تلك الحضارات فيها تقويما لانحرافاتها الفكرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع

1.قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، الطبعة الثانية، مطبعة الكتب المصرية، القاهرة 1935،ص54.

2.العرب والتحدي ، محمد عمارة ،سلسلة عالم المعرفة،ص 14,13، 15

3.فيلسوف القرآن الكريم، محمد عبد الله دراز حياته وآثاره، دار المشرق، ص43، 91.

4.الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية، فتحي يكن، مؤسسة الرسالة الطبعة 11،بيروت 1992.

تابعونا