الخطاب العسكري.... !

8. نوفمبر 2017 - 5:12
القاظى مولاي أحمد

في الوقت التي أتسلم فيه مهام رئيس الجمهورية الاسلامية الموريتانية فإنني اول ما يخطر علي بالي هو الأوضاع المزرية لآلاف الفقراء والمحرومين الذين يعلقون آمالا جسيمة علي برنامجها الانتخابي لنيل حقهم في التمتع بحياة تصون كرامتهم وشرفهم في ما عنوه من غم وسئم فترة طويلة ..... لهؤلاء أؤكد أني لن أخيب آمالهم !!
كانت تلك مقتطفات إفتتاحية من خطاب  الرئيس ولد عبد العزيز  يوم تنصيبه ، حيث كان كل شيء يسير علي ما يرام  على الأقل بالنسبة له ولأنصاره – تلك الأمسية 5 أغسطس  2009 – حيث تجمعت أعداد غفيرة من الجماهير  والحشود الواعدة معلنة فرحتها بالنصر وولاءها التام للفارس الجديد .. ذلك الفارس الذي شق طريقه  الوعرة بإرادة وقدرة لم يفهمها المقربون  منه أكثر من  قراءة المعارضين لها الذين أصابهم تلف التفكير السياسي ، وحيث أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كانت في حالة يرثي لها وتشهد تدهورا كبيرا آنذاك  ، استفاد القادم الجديد من الخلف  كثيرا من  ذلك ، ومن مخلفات الحكم  السابق من ظلم وجبروت .. وراح  يلقي مفردات خطابه السياسي بكل ثقة أمام الجماهير الوافدة .. غير انه في تلك الأمسية التاريخية بالذات  تم الإعلان عن قطع حلقوم اللغة  العربية  حينما أعلنت  عصيانها  علي أنين  اسلاك الأبواق المتناثرة  ، وفوق العشب  المنهوك بهزائم  أقدام  المرابطين ،   تمت الصلاة عليها ....  و مع ذلك  واصلت الجماهير  التصفيق والتطبيل    !!
يومها شهدت سماء المتملقين  قبل  أرض المعتدلين  ان التاريخ قد أسدل سدوله علي  الماضي بوابل من الزخم  الاعلامي الحاد والضربات الموجعة .... و بدأ يتحرك  و يتحرك بالكأس الفارغ الجذاب ، فإذا رآه العطشان أعجبه شكله ولونه ولكنه لن يغني عطشه إذا اكتشف محتواه، أو لعله كالسراب الخادع في الصحراء القاحلة.... ومع ذلك استمر الفارس القادم من الثكنات العسكرية  من اعلي منصة الخطابة  يلقي  جملا شديدة الإيلام  دون أن يكون مقيدا بما يمكن ان  يتجنبه ويتعرض له  أي شخصية أخري من مواقف محرجة ،  ودون ان يكون مهيأ لشتي الاحتمالات في مناسبة كهذه  .. ربما لأن الدروس التي تلقاها حتما  في فن الخطاب وإدارته  لم تكتمل أو لم تستوعب  و بالتالي كان الاهتمام غائبا عن ذلك الفصل..  أضف إلي ذلك أن   الاعتبار السائد  في عيون الجماهير ..  البطل الخارق الذي يجعلونه قدوة و ملهم مشاعرهم ....  واصل الفارس الخطيب الضغط علي   رذاذ الكلمات في مواضيع متشابكة .. الفساد والمفسدون  وصب اللعنات علي الخصوم  و وصف  رؤساء الأنظمة السابقة  –  رغم انتمائه  إلى نفس المنحي – .... بما لا يوجد حتي في القاموس !  
تبرهن جميع أطروحات تحليل الخطاب ، أن  عملية التواصل مع الجماهير تفرض إنتهاج سياسة محكمة و التقدير السليم لسياق التلفظ   ، لذا فخطابه  ابتعد بعيدا عن الرؤية الإستراتيجية للإصلاحات  والمشروع الأخلاقي الكبير  للدولة  وامتاز  باللغة الخشبية الفضفاضة .. والتعنيف والتهجم  ،  فكان ذلك هو  الرسالة المقنعة و الخفية بما ترمي إليه القیادة الجديدة ، غير ان المشكلة  التي عصفت بهذا الخطاب خارج دائرة التصنيف و التحليل ،   جعلت من المستحيل فهم نصه أو قراءته  ،  ذلك أن   فهم سياسات القادة و النخبة وثقافتهم  ترتبط ارتباطا وثيقا من حيث المبدأ  بخطاباتهم  ویتأسس فيها بالضرورة عدة نقاط  یراد توجيهها الي الجماهير  لإحداث   تواصل ناجح  ، ورغم ذلك مر خطابه  العسكري  بنجاح  .. ذلك أن العسكر شكلوا تربة فكرية ذات معدن نتن  ،لا تصلح بأي حال من الأحوال  لزراعة المواطنة والديمقراطية ..  وكانت الغلبة هي النتيجة الحتمية دائما للجموع المغمضة العيون التي لا تعرف من الانتخابات الا صورة المرشح  وأحيانا كثيرة يجهلون اسمه .. تربع الرجل علي العرش ببساطة وتهيأت له الظروف والعوامل المناسبة لتمرير أهدافه وتسويق نواياه ،  وكانت الانطلاقة  في  ما سماه  الفساد وتصفية الحسابات  ورغم ان الاخيرة تناقض الأولي فهي الفساد بذاته ... الا ان إنتشار ه في الفترات الماضية  جعل الايمان السائد لدي الجماهير  بانه يعني مايقول .. غير أن الحقيقة شمس محرقة وإن كانت هنا صاحبتها واحة من المبررات الخادعة .. وهذا ماأثبتته الأحداث والوقائع والمآسي وحتي الكوارث السياسية والفساد المستشري علنا علي مدار  السنوات الاخيرة العجاف  ، فالذي أطاحه الإنقلاب  .. كان في  قيادة الحكم السابق طفلا ساذجا في فساده  .. أخذ مكانه  جيش من المفسدين   اكلوا الاخضر واليابس و افسدوا كل شيء و  انتشروا  في كل مؤسسات الدولة للإستلاء علي مفاصلها والتحكم فيها  .... مما ادي الي الحكم علي بعضها بالإعدام  و إلي  غياب حماية الاقتصاد .... كثيرة هي  تلك المآسي حقا والجروح والثقوب التي صاحبت هذا النظام طوال مساره المعوج .. وكثيرة بحيث أنك لا تدري .. من أين تبدأ ولا من أين تنتهي ! ؟.. ذلك أن تسارع أحداث  صاروخ النهب  المتواصل  وتشعبه ، يجعلك تعيش حالة إستثنائية من  الحيرة  والتعجب   ، غير أن  القلم يرفض الإنصياع  تحت تأثير  الأحاسيس المتداخلة ويصر إصرارا واضحا علي  رسم صورة الفساد المحددة المعالم  ..  كوشم التنين علي صدر بحار .. كلعنة  أبدية لآلهة الإنتقام ..  ! ..رجع القائد الملهم الجديد الي القصر الرمادي بعد  إنتهاء  خطابه الأخاذ والزغاريد من كل حدب وصوب  تصنع  ضجيجا وصراخا والألعاب النارية تغطي سماء الملعب  .... ودبت فيه دبيب الحياة وهو يعاود التلفزيون .. من يومها حفر التاريخ  نقوشا حادة  علي جدار الصمت .. الصارخ ..و  حكايات  أخري دونها ..تتساقط الواحدة تلو الأخري كورق التوت .. وما أكثر سقوطه هذه الأيام ..  فيظهر عورات وجرائم  فساد العشرات والعشرات من الخطابات ....  وها هي الأيام تبدي للجميع ما كانوا يجهلون أو يتجاهلون فكل يوم هناك كبوة كان المؤيدون يحسبونها  كبوة الفارس .. ولكن تصفعها أخري وأخري ... حتي صارت كبوات .. والكبوات  ليست من خصال الفارس .. تلك حكاية أخري طويلة  ..  بدأت  حلقاتها يوم  أُسْدِل الستار على التنصيب ، وقبل قذفها بالحبر الأحمر  حد التعري ، لنا  عن السخرية في  شعر العملاق أحمد مطر وقفة ..   

زار الرئيس المؤتمن بعض ولايات الوطن ..
وحين زار حينا .. قال لنا: هاتوا شكاواكم بصدق في العلن ..
ولا تخافوا أحداً ..
فقد مضى ذاك الزمن .. 
فقال صاحبي حسن: ياسيدي .. أين الرغيف واللبن؟
وأين تأمين السكن؟
وأين توفير المهن؟
وأين من يوفر الدواء للفقير دونما ثمن؟
ياسيدي .. لم نر من ذلك شيئاً أبداً .. 
قال الرئيس في حزن: 
أحرق ربي جسدي ..
أكل هذا حاصل في بلدي!
شكراً على صدقك في تنبيهنا ياولدي ..
سوف ترى الخير غداً!
وبعد عام زارنا ومرة ثانية قال لنا: 
هاتوا شكاواكم بصدق في العلن .. 
ولا تخافوا أحداً فقد ولى ذاك الزمن .. 
لم يشتك الناس .. فقمت معلناً: أين الرغيف واللبن؟
وأين تأمين السكن؟
وأين توفير المهن؟
وأين من يوفر الدواء للفقير دونما ثمن؟
معذرة يا سيدي: وأين صاحبي حسن؟!

تابعونا