العنصرية في موريتانيا… جرح نفسي قبل أن يكون صراعًا سياسيًا

29. أكتوبر 2025 - 21:22

منذ عقود، تعيش موريتانيا على وقع شدٍّ وجذب بين الدعوات إلى الوحدة الوطنية والأصوات النشاز التي تعزف على أوتار الفرقة والتمييز. وبينما تُعلن الدولة في خطاباتها الرسمية التزامها بالعدل والمساواة، يتعالى – بين الحين والآخر – صوت دعاة الفتنة والعنصريين، مستغلين بساطة الشعب وضعف أداء الحكومة في معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. لكنّ التحدي الأعمق لا يقتصر على قصور السياسات أو فساد المؤسسات، بل يتجذّر في النفسية الجمعية وما تحمله من عقد متوارثة وأوهام متناقضة.

■ جراح الماضي ووهم التفوق

حين يشعر طرفٌ من المجتمع بأنّه أدنى من غيره، فإنّه يبقى سجين تاريخٍ مثقل بالغبن والتهميش، يفسّر الحاضر بعدسة الماضي. وفي المقابل، حين يتوهّم طرفٌ آخر أنّه أرقى أو “أصيل” أكثر من غيره، فإنّه يعيش حالة إنكار للواقع المعاصر، متغافلًا عن أن مقاييس التفوق اليوم لا تُبنى على العرق أو النسب، بل على التعليم، والعدالة، والقدرة على البناء المشترك. هذان الشعوران – الدونية والعلو – يغذيان بعضهما البعض، فيكرّسان هوّةً اجتماعية تتسع مع كل أزمة سياسية أو اقتصادية.

■ مسؤولية الدولة والنخب

لقد أثبتت التجربة أنّ الشعوب الهشّة، التي لم تُشفَ من رواسبها النفسية، تكون عرضة للاستغلال من قبل الساسة وأصحاب المصالح. فيتحوّل خطاب القبيلة والعرق إلى وسيلة لصرف الأنظار عن الفساد والنهب وسوء التسيير. هنا تبرز مسؤولية الدولة في إعادة صياغة خطابها وممارساتها، لا كجهاز سلطوي فقط، بل كراعيةٍ لمشروع وطني يزرع الثقة بين المكوّنات. كما أن للنخب الفكرية والإعلامية دورًا حاسمًا في بناء وعي نقدي يواجه خطابات الكراهية، بدل أن تذوب – أحيانًا – في لعبة الانقسامات.

■ المصالحة المطلوبة… نفسية قبل أن تكون سياسية

كثيرون يظنون أن أي “حل سياسي” كفيل بإنهاء الأزمات، لكن الواقع يبرهن أنّه بدون مصالحة نفسية جماعية لن تكون المصالحة السياسية إلا مسكّنًا مؤقتًا. نحن بحاجة إلى شجاعة الاعتراف بالأخطاء التاريخية، وإلى تربية أجيال جديدة على قيم المساواة والكرامة الإنسانية، بعيدًا عن التقديس الأعمى للماضي أو الانغلاق على الهويات الفرعية. المصالحة الحقيقية تبدأ حين يتحرر الجميع من ثقل الأوهام: لا أحد أدنى من أحد، ولا أحد أرقى من أحد.

■ هوية واحدة بعدل واحد

ما يجمع الموريتانيين أكثر مما يفرقهم: أرض واحدة تستحق التنمية، تاريخ مشترك ملئ بالتضحيات، دين جامع يساوي بين الناس، وتحديات مصيرية لا يمكن مواجهتها إلا بالاتحاد. لذلك، فإن الشعار الذي ينبغي أن يتبناه الجميع هو: “هوية واحدة بعدلٍ واحد، ووطن يتسع للجميع”.

بهذا وحده يمكن تحويل الذاكرة من جرح مفتوح إلى درسٍ للتماسك، ومن عقدة نفسية إلى قوة دفع نحو مستقبلٍ لا مكان فيه إلا للمواطنة الحقة.

كاتب صحفي : محمد عبد الرحمن ولد عبد الله

إعلانات