يخبرنا القرآن أن أسبابا "لامادية" كانت من أهم عوامل النصر في غزوة بدر.. نتناول منها ثلاثة..
النعاس (النوم) يغشى المسلمين وهم في لحظات الإعداد للمعركة.. المطر ينزل عليهم من السماء.. والملائكة تدخل المعركة بوظائف نفسية وقتالية و"لوجيستية"..
هناك حالة حرج تواجه العديد من المسلمين اليوم عندما يتعلق الأمر بتدخل الأمور الغيبة في سير الحياة اليومية الحادية
وحوادث الزمكان التي يفترض بها حسب (اعتقادهم) أن يحكمها مبدأ العلية السببية.. هناك عدة أسباب لحالات الحرج هذه ولسيادة مبدأ "الحتمية" لدى هؤلاء..
نجحت الفلسفات الحديثة (خاصة فلسفات الذات) في تعميم فكرة "المادية"، وأصبحت غالبية شعوب الأرض تعترف بتقديم هذه الأفكار على غيرها في مجال الحياة المعاشة، ذلك لأن "الحساسية" الإنسانية البسيطة تواجه باستمرار عالم المادة المشخص أمامها كحقيقة وتشاهد مبدأ السببية يحكم جانبا كبيرا من الحياة، ويصعب عليها الأخذ بغيرها من الأفكار "الماورائية"..
نجح العلم الطبيعي الحديث القائم على علاقات "السببية" ومبدأ "الحتمية" في أن ينقل منهجه إلى مجال السلوك وأحداث الحياة البشرية.. هذا العلم "الحيادي" في مجال الدراسات الطبيعية اخذ دور الفلسفة ومعارف القيمة في توجيه الناس إلى القبول بالحتمية كمحدد للفعل البشري..
لقد كانت غالبية الثقافات تعتقد أن هناك روابط للتفاعل تتحكم في الحياة على وجه الأرض غير العلاقات السببية.. يمكن أن نسمي هذه الثقافات بالثقافات السماوية (تشير السماء إلى عالم ما فوق الحس والظاهر) في حين أن ثقافات بشرية أخرى قليلة كانت تولي الأهمية الكبرى للعلاقات السببية الظاهرية.. يمكن تسمية هذه الثقافات بالثقافات الأرضية ( الأرض رمز العلاقات السببية و عالم الظاهر)
الفلسفة الغربية الحديثة في مجملها هي "فلسفة أرضية". كان لها الدور الأكبر في التاريخ في نقل مجمل "الثقافات السماوية" وتحويلها إلى "ثقافات أرضية" أو على الأقل جعلها ثقافات هجينة "أرضسماوية".
تدور غزوة بدر في جانب كبير منها حول حقيقتين..
الحقيقة الأولى هي حقيقة ضرورة الأخذ بالأسباب المادية (من تخطيط و مشورة و استخبار ...الخ ).
الحقيقة الثانية هي حقيقة الأسباب "اللامادية" للنصر..
لقد أصبح بعض شبابنا متراخين في الأخذ بهذه الحقيقة (الأسباب اللامادية للنصر) و متقاعسين أو محرجين عن الحديث عنها في عالم اليوم المادي بامتياز.. لذلك ينبغي التركيز عليها..
إن تأثير الأسباب اللامادية في الحياة المعيشة وعالم الظاهر هي عقيدة إسلامية.. ينبغي تدريسها في جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا بصورة كبيرة..
لقد نزل النعاس على المسلمين في وقت حرج من المعركة كانوا فيه خائفين مترقبين متوجسين. ومعروف أن من هذه حالته في عالم الظاهر فلا مجال لديه للنعاس ولا النوم.. لكن النعاس كان سببا لاماديا مهما في الانتصار فبمجرد أن استيقظوا كان قد دب فيهم النشاط والطمأنينة واستحال ترقبهم وتوجسهم إلى إقبال و قوة عزيمة.. قال الله تعالى: )إذا يغشيكم النعاس أمنة منه (..الآية.
إن إنزال المطر سبب آخر مهم من أسباب الانتصار في بدر، قال الله تعالى: )وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام(.. الآية.
استغاث المسلمون الله أن ينصرهم في المعركة، فاخبرهم انه سوف يعطيهم مددا من الملائكة ، قال الله تعالى":)إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين(..الآية. و كانت مهمات الملائكة هنا متعددة فمنها مثلا القتال والتثبيت: )فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان(.. الآية.
إن حالة الحرج هذه نابعة من أمرين: تعميم الفلسفة الغربية لنسختها في فهم العالم إلى غيرها من الثقافات الأخرى بما فيها الثقافة الإسلامية. ثم نجاح العلم الطبيعي في جعل مبدأ الحتمية العلمية يتسرب إلى أمور الحياة البشرية الأخرى و ينبسط إلى عالم السلوك وينسحب على مجمل أحداث الحياة البشرية.
لذلك، علينا إعادة اعتبار قيمنا الحقيقية، و إحياء قيمة العوامل اللامادية وأسباب النصر الخفية إلى عقول الناس. ليس فقط فيما يتعلق بأحداث الماضي وغزواته، بل في أحداث الحاضر وتطلعات المستقبل في كافة شؤون الحياة.. على القائمين على تعليم السيرة النبوية و المدرسين وأصحاب الشأن أن يفعلوا ذلك أيضا..
ينبغي وقف تغلغل الفلسفات المادية في عقول ووجدان وإيمان أبناء المسلمين.. فلندرس سيرتنا بطريقة مختلفة عن معهود دروس المادية المنتشرة اليوم..
تعلمنا غزوة بدر، نحن أبناء القرن الواحد والعشرين، أن نعيد الاعتبار إلى "لامادية" النصر في حاضرنا ومستقبلنا