عبد الباري عطوان: كيف أوصل القذافي ساركوزي إلى "الاليزيه" ثم السجن

22. مارس 2018 - 17:14

اعتقال نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق ثم الافراج عنه بكفالة، بتهمة الحصول على تمويل يصل الى اكثر من 50 مليون يورو لتمويل حملته الانتخابية الرئاسية عام 2007 التي فاز فيها، اثلج صدر الملايين من أبناء الشعب الليبي،

ومثلهم من العرب والمسلمين أيضا، الذين عانوا، وما زالوا يعانون من كارثة التدخل العسكري لحلف “الناتو” الذي دمر ليبيا وحولها الى دولة فاشلة، وقتل عشرات الآلاف من أبنائها، وشرد ما يقرب من ثلاثة ملايين يعيشون على الكفاف في دول الجوار، وهذا لا يعني ان أحوال من بقوا في ارضهم افضل، بل اكثر سوءا في معظم الحالات.

التحقيقات التي اجراها المحققون الفرنسيون مع ساركوزي، اكدت “ان هناك ادلة جدية ترتقي الى مستوى الجريمة، متشعبه الجوانب، منها ما هو متعلق بالفساد وغسيل الأموال، وأخرى تشير الى مخالفة القانون الفرنسي المتعلق بشروط تمويل الحملات الانتخابية”.

من المفارقة ان العقيد الراحل معمر القذافي هو الذي أوصل ساركوزي الى قصر الاليزيه، وهو الذي أطاح به، واوصله الى المعتقل، وسلسلة طويلة من التحقيقات امتدت لاكثر من خمس سنوات كانت حافلة بالفضائح.

ساركوزي اعتقد انه بالوقوف خلف اطلاق غارات طائرات حلف “الناتو” وقتل العقيد الليبي بطريقة دموية بشعة، سيدفنه واسراره في مكان مجهول في الصحراء الليبية، ولم يكن يعلم ان “لعنة العقيد” ستطارده وتقض مضاجعه طوال حياته، وستدمر مستقبله السياسي والشخصي معا، وستقذف به الى مزبلة التاريخ التي يستحقها عن جدارة.

العقيد القذافي، واسرته، والملايين من أبناء الشعب الليبي الذين يترحمون على حكمه هذه الأيام بعد ان شاهدوا أوضاع بلادهم البائسة على ايدي خلفائه، يدينون بالفضل الى زياد تقي الدين، رجل الاعمال الفرنسي من اصل لبناني الذي كان اول من “علق الجرس” وفضح المستور، عندما تحدث للاعلام، وصحيفة “ميديا بارك” الفرنسية الالكترونية بالادلة، واكد انه حمل ثلاث حقائب محشوة بأكثر من خمسة ملايين يورو نقدا من فئتي 200 و500 يورو، سلمها الى مدير مكتب ساركوزي عندما كان وزيرا للداخلية اثناء الحملة الرئاسية، والتقاه شخصيا في مقر الوزارة، والأكثر من ذلك انه عزز هذه الأموال بوثيقة حصل عليها من السيد موسى كوسا، رئيس المخابرات الليبي الأسبق، تؤكد ان نظام القذافي قدم 50 مليون يورو نقدا لحملة ساركوزي.

العقيد القذافي قال في آذار (مارس) عام 2011، وبعد ان اتضح دور ساركوزي في الوقوف خلف تدخل حلف “الناتو” لإسقاط حكمه “انا الذي ساعد ساركوزي للوصول الى السلطة، منحته المال لكي يصبح رئيسا.. جاء الى هنا وزار خيمتي عندما كان وزيرا للداخلية وطلب المساعدة”، اما نجله سيف الإسلام فطالب “المهرج” ساركوزي في مقابلة مع قناة “يورونيوز” “بإعادة الأموال التي اخذها من ليبيا لتمويل حملته الانتخابية”.

احتمالات اصدار احكام بالسجن ضد ساركوزي تبدو كبيرة، فمعظم الشهود على تلقيه أموالا من ليبيا ما زالوا احياء، ولم يدفنوا مع العقيد القذافي، ويمكن استدعاؤهم للشهادة، او الذهاب اليهم من قبل القضاء والمحققين لاخذ شهاداتهم، مثل سيف الإسلام، عبد الله السنوسي (في ليبيا)، او موسى كوسا (في قطر)، وبشير صالح، مدير مكتب القذافي الموجود حاليا في جنوب افريقيا.

من المفارقات ان ساركوزي قال للمحققين، حسب صحيفة “لو فيغاروا” الفرنسية، انه ضحية حملة بدأها ضده العقيد القذافي وواصلها “زمرته” كلفته الكثير، وحولت حياته الى جحيم، وخسّرته انتخابات عام 2012 الرئاسية بأقل 1.5 بالمئة من الأصوات فقط، ونفى كل هذه الاتهامات ضده.

ساركوزي خسر الانتخابات الرئاسية، ولكن الشعب الليبي ضحية مؤامرته خسروا وطنهم، وامنهم، واستقرارهم، وتحولت حياة الملايين منهم الى جحيم، سواء داخل ليبيا او خارجها. من حق هؤلاء من الليبيين ان يشمتوا بساركوزي وان ينتقموا منه، وان يزجوا به خلف القضبان، وهذا قليل عليه، لان حجم الدمار والقتل الذي وقف خلفه في ليبيا، ويتحمل المسؤولية الاكبر عنه، لم يكن يتصوره عقل، والأخطر والاهم من ذلك انه ما زال مستمرا حتى الآن، وربما لعقود قادمة.

انها لعنة الشعب الليبي الطيب أيضا الذي تعرض لأكبر خدعة في تاريخه عندما صدق ان حلف “الناتو” وطائراته سيجلب لهم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وسيؤسس نموذجا للأمن والاستقرار والرخاء والمستقبل الأكثر اشراقا، لعنة حلت بساركوزي، وستطارد آخرين أيضا تورطوا في هذه المؤامرة الكارثية وعلى رأسهم شخصيات ليبية وزعماء عرب وهم يعرفون أنفسهم جيدا.

الانتقام لن يعيد الحياة الى القذافي وحوالي 35 ألف شهيد ليبي مزقت أجسادهم الطاهرة قذائف وصواريخ طائرات حلف “الناتو”، وقذائف الميليشيات التي استولت على الحكم، وعاثت في الأرض قتلا وتدميرا ونهبا لثروات الشعب، التي تقدر بأكثر من 360 مليار دولار تركها النظام السابق ودائع باسم هذا الشعب في مصارف واستثمارات عالمية، ولكنه يظل نوعا من العدالة الوضعية والربانية أيضا، وهذا اضعف الايمان في رأينا.

المأساة الكبرى بالنسبة للكثير من المتورطين شركاء ساركوزي في محنة الشعب الليبي، ان يخوض المهندس سيف الإسلام القذافي الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويفوز فيها، خاصة انه يحظى بدعم لا بأس به من قبائل كبرى وقطاعات ليبية مهمة باعتباره احد ابرز المخارج من الازمة، الرجل اعلن عزمه الترشح بعد تبرئته من كل الاتهامات الموجهة اليه.. ولا يمكن استبعاد هذا الاحتمال.. والله اعلم

عبد الباري عطوان- رأي اليوم