لطالما عني الإنسان بتأطير العلاقات التي تربطه بغيره، لأن طبعه الاجتماعي ينزع به إلى التعامل مع الناس وتكوين شبكة علاقات معهم، تقتضيها الحياة والمصلحة معا، فيتعاون، وينصح، ويحزن، ويفرح، ويوالي، ويعارض، ويتقبل التوجيه، ويقبل المعونة.. فكان لا بد من رسم قواعد وضوابط لحسن التعامل وحسن المعشر تكون بمثابة قانون إنساني يرتضيه الدين والذوق والمـزاج العام في كل مناحي الحياة.
وهي قواعد وضوابط تختلف في طبيعتها من مجتمع لآخر، ويختلف حولها المفكرون والفلاسفة والأدباء من حيث تكييفها في الواقع. وسأكتفي هنا بتقديم نموذجين، هما: نموذج "التعامل بالمثل"، ونموذج "التعاقد".
*_ أولا: التعامل بالمثل
يقول العلامة امحمد ولد أحمد يوره، رحمه الله،
حد ابغانِ نرعَ لمگاد * افبَغيُ وانزوز المعتاد
أحد اكرهنِ منُّ نبعاد * اعل حاله ماهِ غجرَ
وانواسِ لمْوَاسينِ زاد * ريحت حجرَ، ريحت
حجرَ
طلعة أديبة وجميلة، تنطلق من خلفية "العواطف" و"التراحم"، حيث يتحدث عن مشاعر قلبية: "حد ابغاني"، و حد أكرهني".. وكلها أبعاد غير مادية في العلاقات بين الأفراد.. وصاحبها ينشد المحبة والولاء والاعتبار..
*_ ثانيا: نموذج "التعاقد"
يقول علامة وأديب آخر:
خُو لگامْ أُ دارك بالخير * دَورُ بالخير أُ ذيك أخَير
أُ تم أحْطبْلُ فِلِّ يختير * گد ألِّ يَوْخظ يختيرك
وِيلا گام أُ دارُ فِالغَير * واستغبط عن خيرك غيرك
ديرُو فِالغَير، أُ دير الخير * فبلدْ فيه اتجمّل خيرك
طلعة جميلة تقارب موضوع العلاقات بين الأفراد من باب كونها علاقات "تعاقد".. عمل خير في مقابل خير.. أي أنها علاقات عقلانية مجردة، أو تعاقدية محضة. لا تترك مجالا لعدم مكافأة الخير بالخير، وتنبذ اللؤم والجحود. إنها "البراغماتية" في أبهى صورها، والتي تنظر إلى العملية من زاوية "الاستثمار" والمصالح المتبادلة.. وكأن صاحبها يقول بلغة "الحداثة": لا تُضيّع جهدك واستثمارك.
" ديرُ فالغير، أُ دير الخير * فبلدْ فيه اتجمّل خيرك".
** ذات مرة، سألني أحد الأصدقاء هل في الطلعة الأولى ما ينطبق على الأحوال السياسية، قلت: نعم، بل فيها تصوير كامل لعلاقات الأنظمة الحاكمة والناس على اختلاف مواقفهم:
- الموالاة: ترعَ لمگاد، واتزوز المعتاد
- والمستقلون والتكنوقراط: ريحة حجرَ،
- و أجمل ما في الطلعة قوله: "منُّ نبعاد @ اعل حال ماهِ غجرَ"؛ كلمات قليلة ترسم طريقة محترمة للتعامل بين المعارضات والأنظمة؛ كلمات عبّر فيها الرجل الصالح عن معنى "الهجر الجميل".
قال تعالى: "وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً" (المزمل).
" الابتعاد اعلَ حال ماهِ غجرَ".
طابت علاقاتكم بكل خير..