تعالت في الأيام الأخيرة أصوات غاضبة، بفعل ما تراه تقصيرا واختلالا في مسؤوليات الدولة، وكان الدافع -الآني على الأقل- يتعلق بأداء الدولة أمنياً، والحقيقة أن الأمن هو ركيزة حاجيات الإنسان، والحقيقة -أيضا- أن الجرائم عموما (والأخيرة خصوصا) مدعاة لكثير من الغضب وكثير من الألم لأي إنسان فطره الله فطرة الأسوياء.. لكن هل ما حدث -في الفترة الأخيرة- كان استثناء في تاريخ البلد؟ أم أن الاستثناء كان في توقع الناس وآمالهم؟
أُدرك -مبدئيا- أن كثيرين سيرون في هذا الاستدراك وفي هذه التساؤلات نكأً للجراح، أو -حتى- استخفافا بمشاعر الضحايا؛ غير أنني معاذ الله أن أصطاد في تلك المستنقعات..! كل الذي في الأمر أنني لست من المستثمرين في العاطفة؛ لقناعتي أن الحلول لا تأتي إلا من العقل، وأن الدواء -مهما كان مريرا وأليما- خير وأنفع..!
لا شك أن زرع السكاكين -مجانا- في قلب أبٍ يحمل لأبنائه عشاءهم، وبدم بارد، منكر وجرم من الفعل يستحق كل الغضب وكل التألم وكل التأوه.. تماما مثل اغتصاب أمٍّ أمام أعين صغارها.. كل من يقول كلاما بغير هذا المعنى منعدم الفطرة الإنسانية.. إن زفرات ودموع أولئك الأبناء تستحق كل ثمن سيدفع في سبيلها.. ومع هذا؛ فإن الأمر -في جوهره- لا يختلف عن قتل وحرق شاب كان عائدا إلى أمه، بمصروفها اليومي، بعد نهار من المشقة والعرق (ولد برو) ولا يختلف -كذلك- عن اغتصاب طفلة كانت تعدو إلى حضن أمها، وحرقها، أو قتلها (زينب/خدي) دموع الأمهات وآلام الأمهات ليست أقل حرارة ولا اشتعالا من دموع الأبناء... فدموع الأمهات -أيضا- ساخنة وصادقة..!
إذن؛ الأمر -كما هو واضح- ومع أنه مؤلم ومغضب؛ فإنه ليس استثناء في تاريخنا القريب؛ بل وُجد فيه من قبل، والمفارقة أن ردة الفعل لم تكن -حينها- بحدتها اليوم؛ فلماذا ترى؟ وأيهما الأسلم: ردة الفعل -الأولى- الفاترة؛ أم -الأخيرة- الحارة؟!
في تقديري أنه مع استلام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للحكم -إن لم يكن مع إعلانه الترشح- ارتفع سقف الأمل لدى غالبية سكان أهل هذه الأرض؛ ليصبحوا حساسين وشفافين تجاه أي شكل من أشكال الاختلالات في مسؤوليات الدولة؛ فلم يعد يُتوقع في ذهنيات الناس غير الإنجازات، والإنجازات فقط.. من هنا نجد التفسير -النفسي- لما حدث؛ إذ كيف تكون ردة فعلنا على النسخة الثانية من الجريمة (والمعروف -موضوعيا- أن تطورها يأخذ شكلا تصاعديا) أكثر حدة ورفضا من ردة فعلنا على النسخة الأولى؛ التي يُفترض أن صدمة مفاجأتها عامل استفزاز وتأجيج؛ لكن الظاهر -فيما يبدو- أن ذهنيتنا (أيام النسخة الأولى) كانت مهيأة بقوة لتقبّل الاختلالات؛ بل وتجاوزها، ربما يضاف إلى ذلك -أيضا- أن أملنا في التعاطي الرسمي الإيجابي مع غضبنا (في حالة لو وقع) كان ضئيلا.. هذا إذا لم نكن كظمنا غيظنا (فالأمر حتما أغاظنا) خوفا من ردة الفعل الرسمية..!
ويزيد الأمر تفسيرا ووضوحا استغلال تلك "اللحظة" لتمرير بعض الأجندات من قبل أطراف (بذاتها) فحين ندرك أن الذين أخرجوا -أو أرادوا أن يُخرجوا- غضب البرآء وألمهم عن نصابه ليتحول إلى تنابز جهوي وعرقي وفئوي.. هم الذين كانوا يتصدرون المشهد السياسي (بقطبيه) حين أُحرق واغتصب وقتل المرحومون (خدي توري وزينب وولد برو) فالرئيس السابق كان -يومها- هو المسؤول عن أمن الناس وسلامتهم، و"تواصل" كان -حينها- يتزعم المعارضة؛ فلماذا سكتوا وقتها وكأن على رؤوسهم الطير..!
إن "أزمة" سقف الأمل والتوقع (هذه) الناتجة عن واقع جديد وسياق جديد، لم تصاحبها -حتى الآن- ميكانيزم نقدية تنتمي إليها؛ بل لا نزال نستخدم ذات الأدوات النقدية التي أفرزتها "العشرية الفارطة" وهو خلل منهجي يعاني منه الكل (معارضة وموالاة) فنحن نناقش على أساس أن الرئيس عليه أن يتدخل في كل شاردة وواردة؛ أن يعلن فساد هذا، وكذب ذلك، وخيانة أولئك.. وأن المعارضة ينبغي لها الترصد الدائم للنظام؛ فتستغل كل حدث البرهنة على أن النظام سيء.. يليق بنا أن ندرك أن تلك النماذج التي كانت تحكم أذهاننا لم تعد واقعا؛ بل تم تجاوزها أردنا أم لم نرد