يتبادر إلى الأذهان دائما هذا التساؤل أعلاه عندما يتم تداول بعض المؤشرات المتعلقة بتصنيف موريتانيا دوليا أو إقليما أو عربيا في مجال من المجالات، لكن أغلبنا لا يتفاعل مع تلك المؤشرات انطلاقا من مقارنة هادئة بين واقعنا الحالي وماضينا القريب، بل إنه يذهب أبعد من ذلك في تبني مؤشرات لا نعلم على أي معيار تم وضعها. نتبناها فقط لأنها تمنحنا قوة مرحلية لتسجيل نقاط إعلامية ضد النظام الذي يحكمنا دون أدنى مراعاة للإنصاف والموضوعية أو المقارعة بحجج عقلانية ومنطقية.
ورغم أنه لا شك في أننا نتفق جميعا على مشروعية النضال السياسي من أجل مجانية التعليم والصحة وإعادة توزيع الثروة بإنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات والطرق ..إلخ، ورفع الأجور وحماية البيئة وتعزيز النظم القانونية القادرة على تجسيد المساواة بين فئات ومكونات المجتمع وحفظ خصوصيات أفراده، إلا أن كل هذا لا يأتي فجأة ولا دفعة واحدة، بل يحتاج للوقت ولتوفر عوامل كثيرة من أبرزها الاستقرار السياسي الذي يعتبر في نظرنا الأساس الأول لتطور النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.
لذا فإن الاندفاع في تبني نتائج مؤشرات تلك المؤسسات، التي لم نسمع عن تقييمها لموريتانيا قبل هذه السنوات دون التشكيك في مصداقيتها أو مقارنتها مقارنة موضوعية مع واقعنا الحالي في حدود إمكانياته ومتطلباته، يبقى مجرد صراخ عبثي لـ"تكَصار الوقت" بالتشويش افتراضيا على نظام أزاح خصومه من دائرة التأثير في المشهد السياسي بشروعه في تنفيذ مشاريع وبرامج منحته القوة الشعبية الكافية لتجاوز مراحل صعبة في الحياة السياسية المحلية.
وبالمقارنة البسيطة بين واقع التعليم الآن في موريتانيا، الذي صنفته إحدى "المؤسسات" مؤخرا في المرتبة 137 دوليا، وما كان عليه في الأنظمة الماضية يتأكد لنا أن الفرق كبير جدا رغم أنه لازال ينقصنا الكثير. فلا ننسى أن هذا القطاع قد بدأ اختفاء مراحله الأساسية والإعدادية والثانوية النظامية بعد تخلي الدولة الخطير عن مسؤولياتها في هذا الصدد، وفتح الباب واسعا أمام التعليم الحر نهاية التسعينات وبداية الألفين ليصبح هو الخيار الوحيد المتاح نظرا لعدة اعتبارات من أهمها: تشكل المدارس على أسس قبلية وجهوية، وتسيرها من طرف أفضل الأساتذة والمعلمين. وذلك في الحقيقة هو ما جعل محاولة إصلاح التعليم 2007- 2008 تفشل في خطتها الجريئة، لكن الخيار المناسب للحد من سيطرة التعليم الحر كان في تطوير المؤسسات النظامية بإنشاء المدارس النموذجية ومدارس الامتياز والثانوية العسكرية، إلا أن نجاح هذه الخطة يعتمد على مواكبة جدية من المجتمع المدني. وأما بخصوص التعليم العالي فقد شهد قفزة نوعية شملت تنوع التخصصات واعتماد نظام LMD والشروع في التخلي عن مركزة التعليم العالي بنواكشوط من خلال افتتاح جامعة لعيون الإسلامية ومعهد روصو، وإن كان تحويل الطلاب إلى المركب الجامعي الجديد في نواكشوط قبل اكتمال تجهيز السكن الطلابي و تطوير النقل الحضري يعدّ خطوة ارتجالية ساهمت في التقليل من أهمية بناء المركب الجامعي الجديد بمعايير حديثة.
وفيما يخص مؤشر الطرق الذي يتحدث البعض عن تصنيفه لموريتانيا في ذيل الترتيب العالمي من حيث جودة الطرق، فإن القيام فقط بإحصاء دقيق لما تم إنجازه منها في السنوات القليلة الماضية لفك العزلة عن مدن مهمة كـازويرات ومال وباركيول وشنقيط..إلخ، وبدأ الأشغال في فك العزلة عن أخرى كـتامشكط وجكَني..، وتوسيع طريق روصو/ نواكشوط/ بتلميت - على أمل أن تمتد توسعة الأخير لتشمل الطريق الرابط بين بتلميت وألاكَ -، بالإضافة لتطوير هيكلة الشوارع الرئيسية بالعاصمة نواكشوط، لكفيل بالتشكيك في التقرير الذي اعتمدت عليه الجهة التي أصدرت التقييم المغالط والمتحامل قبل القمة الإفريقية المرتقبة في بلادنا.
في الأخير اعتقد أننا إذا واكبنا إصدار كل مؤشر من تلك المؤشرات بمقارنة شجاعة بين ما نحن فيه الآن وما كانت عليه بلادنا من قبل فسنتأكد بدرجات متفاوتة أننا كنا "خارج العالم" في واقع مزري جدا وغير قابل للتصنيف؛ والمبكي في الأمر حقاً أن بعض الشخصيات المسؤولة عن تلك الحقب المظلمة من تاريخ دولتنا هي التي تزود المؤسسات والمراكز بهذه التقارير وتحرض الشباب على تبني نتائجها باندفاع شديد.