يعلمنا التاريخ أن قرارات الدول الكبرى ليست مرتبطة بلحظة تاريخية عابرة، وليست ردة فعل مفاجئة، ولكنها تحاول تجسيد استراتيجيات طويلة المدى، والاستجابة لتشكل مراكز القوة في الخريطة السياسية الدولية، وهذا ينطبق على قوة مثل الولايات المتحدة التي تحاول أن تقدم نفسها كشرطي للعالم وكقوة تقليدية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تتمسك بخريطة العالم التي شاركت في صنعها وبنتها على مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
لقد ظهرت في السنوات الأخيرة مؤشرات بالغة الدلالة في الصراع العربي- الصهيوني كشفت عن تغيير ميزان القوة ومصادرها لصالح العرب، خصوصا في المجال العسكري الذي انبنى عليه هذا الصراع.
لقد حقق الكيان الصهيوني بالتعاون مع القوى الغربية انتصارات خاطفة في حربي 1948 و1967، ولكنه تعرض لضربة موجعة وانهيار ساحق لحساباته العسكرية في حرب 1973، وجاءت صواريخ الشهيد صدام حسين البالستية 1991 لتضع نهاية لتفوق الطيران الإسرائيلي، ولتنقل المعركة إلى عمق هذا الكيان، ولتضع كل مواقعه الحيوية في متناول الجيوش العربية، وهذا ما استثمرته المقاومة اللبنانية في حربها مع إسرائيل 2006، فكشفت عن نقاط الضعف المميتة في جسم المنظومة الأمنية الصهيونية، وأخيرة انفجرت معركة مدينة غزة سنة 2014 لتقبر إلى الأبد أسطورة التفوق العسكري الصهيوني التي عملت أمريكا بكل ما أوتيت على فرضها والإيهام باستمرارها إلى الأبد. إسرائيل لا تحارب جيوشا متعددة، ولا تحارب على جبهات واسعة، إنها تتواجه في حرب مكشوفة ومباشرة مع مدينة عربية واحدة عانت من حصار متواصل وشامل! بل وكانت تكيل لهم الصاع صاعين وفق رؤية علمية وإستراتيجية حسبت لكل شيء حسابه! وأجبرت أكثر من نصف اسرائيل أن يعيشوا في الملاجئ تحت الأرض خائفين مرعوبين من صواريخ المقاومة الفلسطينية وتوقفت الحركة في المطارات وانقطعت الدراسة ..و..
لقد أدركت إسرائيل أنها باتت هشة ومكشوفة وضائعة، وأنها لا تستطيع مواصلة سياسة فرض الأمر الواقع على مليار من البشر يتوفر على إمكانات ومصادر للقوة في اتساع مطرد ونمو متسارع وطاقات علمية وسياسية ساحقة لا تمكن مقارنتها بكيان غريب مزروع بشق الأنفس وفي حقبة هيمنة القوى الاستعمارية، فلا مفر من انتصار الكم والكيف، ولا طاقة لهذا الكيان المترنح بردة فعل نابعة من أمة تمتد من المحيط إلى الخليج وتتخذ ظهيرا لها ما ينيف على المليار من الشعوب الإسلامية الحاضنة لقضايا المسلمين والملتفة حول مدينة القدس.
وفي مواجهة هذا الانقلاب في موازين القوى عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وفزعت أمريكا وأشياعها إلى سياسة التفرقة بين الأشقاء، وإشعال الحروب القبلية، والمراهنة على تشبث الحاكم العربي بكرسيه بأي ثمن، وضرب الدول العربية بعضها بالبعض الآخر، وإحلال الصراع مع إيران محل الصراع مع اليهود، ونسج خيوط عنكبوتية بين الكيان الصهيوني وبعض الأنظمة العربية المتخاذلة تحت راية محاربة الإرهاب والتصدي لإيران!
وفي هذا السياق يمكن ربما قراءة الخطوة الأمريكية في نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، في محاولة يائسة لإصابة الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة بالإحباط والرضوخ لسياسة فرض الأمر الواقع..
ولكن هيهات هيهات أن يجدي ذلك نفعا! إن عجلة التاريخ التي تحركها مئات الملايين من المناضلين لا يمكن أن تأبه بقرار صادر عن رئيس أمريكي عابر سبيل ويتاجر بقضايا الإنسانية ومسكون بهوس استرضاء اللوبي الصهيوني للحصول على مأمورية ثانية... فالعرب اليوم، وبمنطق الطاقات الكامنة والفعلية، غير العرب بالأمس، والدفاع عن الكيان الصهيوني أصبح وسيصير مكلفا جدا ومحفوفا بالمخاطر، ففلسطين الآن في عين الإعصار، ولن تختلف نتيجة الصراع في النهاية عن النتيجة التي انتهت إليها في الحروب الصليبية: تحرير القدس وفلسطين مهما طال الزمن، وخروج الغزاة يجرجرون أذيال الهزيمة والخسران. فالعرب يمكن أن يخسروا عدة معارك، دون أن يخسروا الحرب حسب تعبير الجنرال ديغول، لكن هزيمة إسرائيل ولو مرة واحدة تعني نهايتها الحتمية، والتوازن بين العرب وإسرائيل في القوة يعني القضاء على هذه الأخيرة، كما يقول هنري كيسنكر وزير خارجية أمريكا السابق.
ما لم يدركه الغرب وأمريكا أنهم زرعوا كيانهم الصهيوني في أسوأ موقع بالنسبة لهم، إذ تحتم عليه بحكم هذا الموقع الجغرافي أن يحول بين عشرات الملايين من العرب في الغرب وعشرات الملايين من أشقائهم في الشرق، وأن يسلب من ملايير المسلمين القدس التي هي واحدة من أكثر الأماكن قداسة عندهم.
ما لم يدركه الغرب أن العرب قد أدركوا قواعد اللعبة وأطلقوا شرارة حرب لن تهدا إلا بزوال إسرائيل عاجلا أو آجلا، ولله در ثائر العروبة الشاعر فاضل أمين حين يقول حول القدس:
يا أيها الباكون في أعطافها الحاملون إلى الصلاة زمامها
القدس أكبر من حكاية ناكص ومن العجائز نمقت أحلامها
القدس ليست قصة وهمية تذرو الرياح الذاريات كلامها
القدس تولد من هنا من شمسنا ومن الروابي تحتسي ضرامها
ومن العقول وقد تبلج نورها ومن الحضارة ركزت أعلامها