تتباهي الشعوب برموزها ليصبح ذلك التباهي وجدانا وطنيا فردانيا وجماعيا عصيا على الاندثار والنسيان، ليتحول إلى موجه للسلوك نتيجة ترسخه وتراكمه وتأمل معانيه، ويشترط عند تشكيل هذه الرموز في التعبير غير اللفظي توفر العديد من الشروط، أهمها؛ الوضوح وتناغم معاني الشحنة الرمزية وعمق الدلالة في ارتباطها بالخلفيات الدينية والاجتماعية والأخلاقية الجامعة لأطياف المجتمع كله،
كما يشترط أن تكون ذات تأثير في المتماهين مع معانيها لتترك أثرا في سلوكهم وتصرفاتهم اليومية ذات الصلة بالوطن وتطوره والإخلاص له.
وهذا ماحصل في اختيارنا للعلم الوطني يوم الخامس من أغسطس 2017 يوم إعادة التأسيس المشهود الذي نال رئيس الجمهورية شرف نقش ذكرياته في كل النفوس الأبية التواقة إلى موريتانيا المنصفة والمتصالحة مع ذاتها، فهنيئا للشعب الموريتاني بمناسبة تمرير هذه التعديلات الدستورية، التي جاءت اعترافا بالجميل لأبطال المقاومة وحثت الأجيال على التضحية، كما جاءت تكريسا لتقريب الإدارة من المواطنين عن طريق إنشاء مجالس جهوية ستمكن المواطن من التواصل مع السياسيين واختبار مؤهلاتهم وجديتهم في خدمة الوطن، كما ستجعل ولاياتنا في الداخل أقطاب تنموية في تنافس ايجابي مستمر لتحقيق الأهداف التنموية، وهي فضلا عن ذلك ستمكن من ترشيد الموارد وتطوير منظومتنا القانونية لتواكب المستجدات، غير أن كل المرامي الاقتصادية والقانونية المهمة جدا في هذه التعديلات أجدها ماثلة في علمنا الوطني الذي صادق عليه الشعب الموريتاني.
أستحضر في هذا العلم تضحيات الذين حملوا السلاح وركبوا المخاطر دفاعا عن العرض والمال مستنطقين مآثر الفرسان وقيم الكرام وورع الأنبياء، ساستحضرهم شهداء ومقاومين ومدافعين وشجعانا وأبطالا دون تمييز، فلاتهمني التسميات التي يطلقها الباحثون على الرجال والنساء الذين خطوا أسماءهم بدمائهم الزكية الطاهرة، فلعبة التسميات باتت مكشوفة، خاصة أنها لعبة تاهت بدوائر اهتمامنا لتشغلنا عن الأهم وهو الفعال، ففي علمنا الذي اخترناه، يتبين أن التضحية هي المغزى من كل فعال الرجال والنساء بغض النظر عن الحيز الزماني والمكاني وبغض النظر عن التسمية التي يتباين الباحثون في تحديدها فمنهم المشككون والمتلاعبون بالتسميات لأغراض بعيدة عن الوطنية ولكن منهم الموضوعيين.
لقد أصبح علمنا فيصلا وأنهى ذلك التيه في المعاني والتسميات، وصارت التضحية كلمة جامعة، وصار علمنا رسالة استنهاض طويلة النفس تعنى بكل الحقب ومراحل تطور المجتمع الموريتاني ومنظومته القيمية، إنه علم يستنهض الهمم يحثنا على الوعي بأن لا مجانية في الحياة الكريمة، "فإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام"، بل التضحيات بشتى أشكالها هي المؤشر على تعلقنا بهذا الوطن، فنحن شعب سكنه حب الإيثار والكرم والتضحية، وسنترجم تلك القيم في حياتنا الحضارية لتصبح ممارسات منتجة في مسيرة بناء موريتانيا، وهذا هو سر قوتنا الصلبة وقوتنا الناعمة، وليس عدلا أن ننسى ديدننا في موروثنا القيمي الزاخر، بل من واجبنا تمثله في كل لحظة من لحظات حياتنا الشخصية والمهنية، لكي نحث الأجيال على تقفى الأثر ليخلدوا أسمائهم وبذلك تظل موريتانيا تنجب الأبطال وتجدد دماء الكبرياء في كل الحقب.
سيسكنني هذا العلم طيلة حياتي، لأستحضر الجندي الساهر على أمن الحدود، والجنرال الذي يرفل في النياشين افتخارا بمسيرته في الذود عن الحمى وركوب المخاطر واستعداده لمواصلة المشوار دون الانشغال برتبه ونياشين فيوم الوغى لاصوت يعلو فوق صوت التضحية والنزال في الميدان، سأستحضر العلم لأتحدث بلسان ذلك الجندي المتقاعد الذي بدى راضيا بعد عرفان الوطن له بكل تضحياته، فالوطن ينبغي أن يظل دائما حاضرا مواكبا للمواطنين.
استحضر في علمنا الجديد عبقرية كل التعابير السيميائية، التي لن يجد المدرس صعوبة في شرح معانيها للأجيال اللاحقة وسيغرس معاني الوطنية في لاوعي المتلقين الصغار ليوجه سلوكهم في المستقبل، ليس من اللائق أن يجد التلاميذ صعوبة في فهم روافد العقيدة الوطنية، فالنشيد والعلم حاضرين في حياتنا اليومية في المناسبات القومية، فالنشيد تصدح به حناجر صغار أبرياء لما تنغمس قرائحهم في مشاغل الحياة، وما أروع تفاعل الصغير مع عبارات الحماس وشحذ الهمم والتعلق بالقيم المجردة، وما أروع ذلك الشعور الذي ينغرس في لاوعي الإنسان منذ الصغر فكثيرا ما تعلق بأذهاننا معارف وقناعات بذورها غرست أيام الصغر، وكما يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر"، كما أن العلم حاضر بالمباني العمومية وفي السفارات وهو كلمتنا القومية غير المنطوقة الموجهة إلى الآخرين التي نبعث بها إلى الجميع بأقل تكلفة وأعمق تعبير، فذينك الخطين الأحمرين تعبير صريح غير قابل للتأويل مفاده، أننا شعب متمسك بمنظومة قيمية وطنية نبيلة راسخة قوامها عدم نكران الجميل والإنصاف.
سيستحضر الموظفون كل معاني التضحية وهم يتأملون العلم يرفرف في الساحات وعلى المباني العمومية وسيقرأونه لوحة شرف واضحة المرامي، سيسهرون على استكمال الإجراءات في خدمة المواطنين، وستتعزز حجة المواطن لينبه كل المتلكئين في خدمة الوطن وتقريب الإدارة من المواطن، فلا استغرب أن يضمن مواطن حجته "انظروا العلم ومعاني التضحيات الوطنية فهل امتثلتم مثله؟"، فالعلم كفانا الحجة، سيزداد سقف طموحاتنا الحضارية، فلم نعد نكتفي بالقيام بالواجب بل صرنا نتطلع إلى السباق في التضحية من أجل الوطن، فهلموا جميعا لنبني الوطن، فالقيم المجردة تتعالى على المصالح الشخصية، والعلم جاء لمراجعة تصرفاتنا وجهودنا وبلورة وعي وطني بناء يبتعد عن الشوفينية ويتفادى نكران الذات السلبي، وينشد تجسيد التآخي والوحدة بتطوير منظومتنا التعليمة والتشبث بقيمنا الروحية وشهامتنا التليدة التي تستوجب التضحية في شتى تجلياتها.