تمثل الحياة العامة موضوعا تتساقط على ساحته جملة أنماط و أصناف من الاهتمامات المنبثقة من رأى متعددة الأبعاد و التطلعات، غير أن ما ينبغي أيكون الرباط الناظم لهذه الاهتمامات، هو في الواقع تلك الإرادة الجمعية المنطلقة من ضرورة تسييد منظومة القيم الديمقراطية الضامنة للحرية و تعددية الرأي و احترام الثوابت الإسلامية والحقوق الفردية و الجماعية، طبقا لما تكفله أحكام الدستور في هذا الاتجاه.
و من أجل إدراك واقع حياتنا العامة اليوم، فإنه يمكن عبر نظرة ما، في واقع الحياة العامة إدراك تجليات نظامنا التعددي، أو ما يمكن أن نطلق عليه ( ساحة الفضاء الحر في واقعنا العام )، لكن هذا الإدراك على تعددية مستوياته يبقى إدراكا موجها و غير مستقل، ما لم تؤسس آليات إنتاجه على الإنصاف والموضوعية المطلوبة في استقراء ما يتجلى من آثار بارزة وحقيقية للديمقراطية في حياتنا المدنية التي ما زالت في العقود الأولى من مسيرتها التاريخية.
و يعني ذلك أن آثار ممارسة الديمقراطية هي بكل تأكيد ذات وجود حقيقي داخل حياتنا العامة، لكن بصور مختلفة، فمنها ما يكمن وجوده طبيعيا في خصوصياتنا الحضارية و يمارس فعله داخل واقعنا بصورة شبه آلية و ذلك بالنظر إلى ما نمارسه بيننا من انفتاح و تسامح.
و من هذه الآثار ما نتوفر عليه من سلطات تشريعية و قضائية و تنفيذية، و ما نشهده من تعددية للمنابر الإعلامية و الكيانات السياسية و منظمات المجتمع المدني إلخ...
غير أن ما يمثل حجر الزاوية بالنسبة لنا هو مستوى الإدراك المطلوب لهذه الآثار بمعنى أننا مطالبين بالقيام طبقا للحس الوطني السليم بعملية تجريد إدراك فعل تجربتنا الديمقراطية من جميع العوائق الديماغوجية التي تزيف الواقع و تكرس النرجسية الهدامة، فقراءة آثار ما تحقق على أرض الواقع من مكاسب ديمقراطية يجب أن ننظر إليها من زاوية موضوعية ليكون التقييم صحيحا و متوازنا، و بذلك يكون بناء الآراء صافيا و شفافا يتيح إشاعة أجواء من الاطمئنان و السكينة، لأن بناء أرضية للرأي و الرأي الآخر تتطلب ببساطة الانطلاق من عملية استنباط للحقائق لا مزايدة فيها و لا مصادرة لمكونات واقعها الخاص.
فبقدر ما كان إدراك آثار تجربتنا الديمقراطية منصفا و موضوعيا، كانت مسيرة قافلة جهودنا في دعمها تحرق المراحل على طريق تعزيز و تسييد قيمها السامية، وبقدر ما كان هذا الإدراك و التفاعل مع آثار هذه التجربة مغلفا بأطر من الديماغوجية، كلما كانت عملية الإدراك في حد ذاتها تعاني من القصور و تدني الوعي بضرورة رعاية الديمقراطية و تعزيز قيمها في الحياة العامة.
إن الإدراك الحصيف لتجليات فعل التجربة الديمقراطية لا محالة سيدفع بوعينا المدني إلى أقصى مدياته نحو الفعل المشترك البناء الذي ينشر الاستقرار كقطب مركزي للتنمية و ممارسة العيش الكريم، كما سيجنب تجربتنا الديمقراطية كل الصعوبات، لتمارس تطورها في أمان و هيبة و استقرار ، و لا ننسى أنها التجربة العربية و الإفريقية التي سجلت السبق في رؤية النور قبل غالبية نظيراتها، و سجلت كذلك اليوم تجاوز كثير من العقبات التي اعترضتها في الماضي القريب لتكون على ما هي عليه الآن و بعد فترة غير بعيدة، و لعل ذلك ما يدعونا إلى رعاية و تدعيم ما حققته من آثار ماثلة، و مواصلة الدرب في تصحيح ما قد يعن من عقبات جديدة، و ليس حراكنا اليوم من أجل تحقيق إصلاحات دستورية واعدة في ا بترتجاه ترقية منظومتنا الدستورية، إلا شكلا من أشكال تدعيم تجربتنا الديمقراطية التي يواجه تجذيرها و تعميقها أكثر من تحد.
علينا أن نؤسس لترقية حسنا الو طني العام لنتمكن من تحصيل القدرة المطلوبة لقراءة صحيحة لفعل تجربتنا الديمقراطية الفتية و التفاعل معها بصورة إيجابية، بعيدا عن كل ما من شأنه أن يزيف معطيات الواقع، ويجر إلى الإدراك الخاطئ المُعيق لترقية الحياة العامة و تعميق مفاهيم الحرية.
إن الاسترشاد بقيم الموضوعية في قراءة آثار الديمقراطية هو السبيل الأوحد لترقية الوعي المدني و تعميق الوعي الديمقراطي و إشاعة العدالة و الإنصاف و الرفع من أداء الفعل العمومي، والانتقال من حالة القصور الحضاري إلى الرشد المدني المستنير.