لا توجد هوية غير متعدّدة. جوهر الأصولية واليمين هو الإيمان والعمَل بمقتضى وحدانية الهوية. الهوية الحرطانية تعدّدية، أو لا تكون. قوة الحرطاني تعدّده وسعته. الحرطاني بيظاني لأنّ الحراطين تتخلّلهم الهويات والانتماءات والقبائل البيظانية. ويتدابرون ويلتئمون على أساسها. وما زال البيظان يخترقونَهم اجتماعياً وسياسياً على أساس هذه الولاءات. وهم بيظان لأنّهم يتقاسَمون الأهواء البيظانية في اللغة والموسيقى والمزاج والمزاح والحدس والوجدان والعرفان والذوق والذكريات والتلاحمات وحتّى الوَجد (أو ما يُسمّيه البيظان بـ"الليعات") والشبق. أجسادُ البيظان والحراطين تعالَقت عبر القرون في اللذة والألم والحقد والحبّ والتدابُر والاشتهاء والقمع والرغبة والسادية والمازوخية.
أوّل مرّة سمِعتُ فيها عبارة "الناس بيظان" كانت من حرطاني. والمقصود بـ"بيظان" هنا نمطٌ ثقافي مشترك: يرنو إلى السلمية والتفاهمية والقدرة على الاحتواء. فالبيظان، ويُصدّقُهم الحراطين، يربطون بين العرق والفِكر والسلوك. ويجب دائماً التمييز بين "كلمة كوري" و"كلمة بيظاني". فالكوري رجل مبادئ. والبيظاني رجل مفاوضات. الأوّل قانوني؛ والثاني سياسي. ويجب الاعتراف أنّ الجنسية البيظانية الأصلية كانت- ككلّ الجنسيات العتيقة- مفتوحة. فالبيظاني هو من يتكلّم الحسّانية جِبِلّة. وكلّ من زاد تبيظنه قليلاً على تيدينيت ول عوّ صار بيظانياً. وهكذا فإن البيظاني يتمدّد ثقافياً، وإن تناقَص ديموغرافياً. وهكذا فإنّ الدولة الوطنية توسّع، بدل أن تعزِل، اتبيظين.
ولكن الحراطين أيضاً غير بيظان (ويجب تأكيد غيريتهم وخصوصيتهم) لانتمائهم لتاريخٍ غيري: تاريخ التابِع والمقموع والمُعبّد. تاريخٌ من عبور السافانا إلى الصحراء؛ جينٌ ولغات وذكريات ووشائج مختلفة. ولذا فكانت لهم ثقافتُهم المخفية وثقافة الخصوصية والإبق والمقاومة أو ما كان يُسمّى بـ"اجمبير" ومقابِله الأرستقراطي "اتنخفير" (مفهومان يستعادان سياسياً). وكانوا، على فترة النخاسة، يقولون، حمايةً لخصوصيتهم وهم في مؤخّرة لفريك، "ذاك شِ امبّيْنَ نحنَ لِعبيد" (أو كما نقول الفتواتية "ذاك شِ امبّينَ نحن آلمودة"). فصنعوا لأنفُسِهم فضاءً خاصاً وموازياً للتبيظين: في الموسيقى والشعر والأمداح والنُكت والبساطة الشعبية، الشبيهة ولكن الموازية للبساطة البيظانية والكَوْرِية. فهكذا صارت لهم نُكتٌ وإحالاتٌ وعادات لا يفهمها البيظان. "شيءٌ بين الحراطين". هويتُهم. ونفس الشيء في المدن. وحتّى في الثقافة السفلية: يتمايز الصعلوك والجينك والآلمودي البيظاني عن الصعلوك والجينك الحرطاني. نمط ثورتهما وتأجرمهما يتعلّق بشجون مختلفة٬ وإن لوحِظَ مؤخّراً أنّ معظَم العصابات الإجرامية متعدّدة عرقياً، وتضمّ تحالفاً خاصّاً بين الحراطين والبيظان.
الحراطين عَرَب. ويتعيّن عليهم استعادَة تاريخهم العربي الأسوَد، الذي ما زال كذلك مقموعاً في المشرق وما زال يُقال له أحياناً "عبد" في لبنان أو "عِزّي" في المغرب". تاريخ العربي الأسود يعود لما قبل الإسلام، لعنترة بن شدّاد، الأعرابي الوحيد الذي أحبّ النبي أن يراه، والسُلّيك بن سَلَكة وخُفاف ابن ندبة: تاريخٌ يجمع الملحمة (عنترة) والصعلكة (السُلَيْك). في مورتانيا كتب الحرطاني تاريخُه أنّه منحدِرٌ من بلال بن رباح، وأخذ مكانه في تاريخ الأهواء العربية بأن اشتغَل على الأمداح النبوية: نوعٌ من التعلية الفرويدية، التي يعلو فيها المُعبّد بالارتقاء إلى المثال الأعظَم. ليس هذا إفيوناً، بل كان المدحُ مقاومة للاستعباد من خلال مفارقة الواقع بالمثال.
غلبة الحرطاني الجنوبي يجب أن لا تنسي في الحرطاني الشمالي. فالحرطاني أمازيغي، أي أنّه ممّا كان يُسمّى في الماضي بالبربر، فتاريخ السود في الصحراء مُسجّل فيما قبل الميلاد. وفي تلك المنطِقة كان السواد والصنهجة صنوان. ربع جيش يوسف بن تاشفين كان أسوَد من سود صنهاجة ومن التكرور، أي الماندى. والمدراري الأسود حكموا سجلماسة في بواكير إسلامها.
والحرطاني إفريقي ساحِلي، أي أنّ له جذوراً من السودان الفرنسي (مالي والسنغامبيا). وما زال إلى اليوم يُطلَق عليه "سوداني" في الشرق الموريتاني. ومن أين أتى الحرطاني بالنيفارة؟ إنها ناي الحنين للجذور٬ للقرى والسواحل. إنها الشكوى من معاناة الإفريقي في الصحراء. إنّها تحويل الألم إلى فن. إنّ قصة «الجذور» أحد أنجح مسلسلات القرن العشرين هي تداخل البيظنة والسودنة وإنتاج حرطنة في أميركا بسبب ذلك.
وإذا تكلّمنا بلغة الأثنولوجيا أو الأنثروبولوجيا القديمة فإنّ هويات الحرطاني المتعدّدة بادية على ميسمِه ففيه الميسَم الإفريقي والميسَم الأمازيغي؛ والأصل الحامي والأصل السامي. ولذا فإن الطبقة الوسطى الحرطانية كانت تستنزف بسرعة في الثمانينيات والتسعينيات بأن تلتحِق بالبيظان أو البولار لقابليتها للامتصاص في الهويات المتعدّدة التي تتضمّنها. قوّة الحرطاني في تعدّده وفي طلبه للحرية وهكذا فهو «حرّ ثاني» وليس «حُرّ طاري». إنّ طلبه للحرية مختلف يجمع النضال ضد الإقطاع وضدّ رأس المال معاً. إنّه ماقبل وما بعد حداثي.
يشهد الحراطين الآن نهضة ثقافية. ستأخذ الحرطنة مكانها في الآداب العربية والإفريقية باعتبارها قلب الأسئلة الكبرى في المعنى والحرية والعدالة والانتقام والتعلية والغفران. الحرطنة اليوم هي اللبّ الأخلاقي لموريتانيا. إنّها تمثّل للمجتمع في ما بعد استقلاله ما مثّلته الكدحة بُعيد استقلاله. ولكنّها٬ علاوةً على ذلك٬ في لبّ السؤال الأخلاقي والسؤال الكوني.
