من يتحدث عن تقاليد راسخة لدى المعارضة التقليدية في موريتانيا فيما يتعلق بصلابتهاوقدرتها على الصمود في وجه الأنظمة ، لا بد أن يتحدث في المقابل عن تقاليد راسخة لدى الأنظمة المتعاقبة في موريتانيا ، أدت بالمعارضة لكل ذلك التعصب والتصلب والمواجهة.
فقد كانت مطالب المعارضة محصورة في الإصلاح و شفافية التسيير وفي بعض الحالات ، الاشراك في التسيير .
لقد كانت هذه المطالب طوال العقود الماضية مستعصية على الأنظمة ومثيرة للريبة لدى رموز و جماهير المعارضة التقليدية على حد السواء .
ليس في القصر " شاي بالياسمين " وأحمد ولد داداه ومحمد ولد مولود وجميل منصور ( قادة الاحزاب الثلاثة الأكثر معارضة و شراسة وصبرا ومواجهة ) لم تغرهم يوما عطايا السلطة مقابل الصمت أو المساندة .
وانخراطهم لأول مرة مع نظام حاكم ليس مجرد حدث عابر يمكن تعليله أو تحليله وفق الأعراف السياسية السائدة في البلاد .
غزواني ليس ساحرا وقادة المعارضة لا يبعون مواقفهم ، هذه مسلمات نقشت على جدار التاريخ النضالي لهؤلاء .
وليس هناك فرق ولا استثناء فيما يتعلق ببرام الداه عبيد الذي قال أنه طوال نضاله كان يبحث عن صاحبه وصاحبه الذي كان يبحث عنه هو محمد ولد الشيخ الغزواني .
إلا أنه شكل استثناء من حيث حساباته الشخصية والمتعلقة بضمور وتضرر دوافع الحضور و الغرور التي تأسست على الخطاب المنبري الحاد ، والتي قد تتضرر كثيرا في حال " الصحبة " مع النظام الحاكم .
وبعيدا عن تلك الحسابات فإن الكل مدرك أن خطاب وبرامج ووعود بيرام تم تنفيذها بإرادة وأدوات وسلطة وتعهدات غزواني ، ولم يعد هناك من يستطيع الاستماع لوعود مغرية من معارض على مسامع فئات من الشعب حققت مكاسب أكبر وأكثر من تلك الوعود خلال مأمورية واحدة ( برامج تآزر وحدها تجاوزت ما كان بيرام يتخيله ، وفق تعبير بيرام نفسه ) .
بيرام مقتنع تماما بأن سياسات غزواني سحبت البساط من تحت خطبه الرنانة واستعطافة للمطحونبن ، لذلك كانت حساباته سريعة في اختيار افضل مسار وهو مصافحة النظام .
لكن بيرام لا يحسن خطاب المصالحة ولا المشاركة ، ولا يستطيع تصور اسمه ولا رمزيته إلا على منبر يخطب عواطف البسطاء ويتباها بنفسه كأيقونة .
لكن المحصلة واضحة جدا ..
هناك نمط جديد من السياسة يبعث على الاحترام والتقدير والمساندة .
فأسماء كهذه لا يمكن أن يشكك أي موريتاني في نزاهتها ووطنيتها وقدرتها على تحليل المعطيات والمؤشرات .
وحين قالت نعم لغزواني حصرا وتحديدا فهذا بلا شك يعني أن غزواني استحق تلك الثقة من عقلاء وحكماء ومناضلي موريتاتيا على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم الفكرية ( اليسار ، وسط اليسار ، واليمين ووسط اليمين وحتى الراديكاليون ) .
للأمر علاقة بالقناعة والتعقل والوطنية معا .
فحسابات التكتل تنطلق من كل زوايا المشهد الوطني والإقليمي والراهنية وبالتالي ليست رؤية موالية سياسيا وإنما واقعية واثقة من رئيس لا تواليه لكنها تثق به وتدرك أهليته لمأمورية ثانية تختلف عن الأولى وفق معطيات واقعية .
اما حسابات جميل منصور وجماعته فتبدو منطلقة من رؤية موالية على المستوى الاستراتيجي المتوسط .
لكن جميل يحمل بعض خصائص مشابهة لخصائص بيرام فيما بتعلق بارتباط رمزيته كمناضل بالمعارضة المرنة والمناورة ( كلكم تتذكون المراوحة بين "المعارضة الناصحة والناطحة" .
وأعتقد بأنه سيمارس ذات السياسة لكن بين أركان النظام نفسه ووسط خيمته .
وبلا شك سيشل تياره وعيا جديدا من خلال طرح نموذج للأذرع السياسية داخل الموالاة على أساس فكري بعد أن ظلت تلك الأجنحة تتشكل حصرا وفق أساس مصالحي ووفق حسابات السياسة المحلية وغيرها من مشتقات المنافسة والصراع داخل بنية النظام السياسية .
اما محمد ولد مولود فقد صافح بيده "اليمين" لكن "اليسار " تظل متمسكة بخط المعارضة ، وعلى الرغم من ذلك فمعارضة "اليسار" هذه المرة ستخدم النظام وفق معطيات سياسية أخرى ومهمة للغاية .
كيف استطاع غزواني إقناع هؤلاء الرموز الذين لم يرضخوا للمساومة أو الإغراء ؟
والجواب على هذا السؤال لابد أن يكون أحد جوابين ، أحدهما يصلح كالتفاف هزلي على الحقيقة والآخر يصلح كجواب جاد وحصري للجادين في طرح السؤال .
الجواب الأول هو أن غزواني شخص ساحر ولديه "جدول" تم تبخيره في القصر أوتقطيره في موائد الإفطار أو الشاي والماء المقدمين للزوار ( هذا هزلي ).
الجواب الثاني أن عقلاء ومناضلي البلد فهموا أن هذا النظام منخرط في التنمية ويصنع السكينة كسياسة وطنية وأنه لا ينفرد برأيه ويستمع جيدا ولا يختلق الصراعات من أجل السياسة .
فعقلية غزواني الضابط طغت على عقلية غزواني السياسي ، من حيث بذل الجهد في السلام والتنمية لأن من يعرف ثمن الصراع تتوجه كل طاقاته لصناعة و إدارة التنمية و السلام .
لم ينجح غزواني في استقطاب ولا إقناع المعارضة لدرجة تزكيته ودعمه ، وإنما نجح في خلق نموذج سياسي و تنموي مقنع لدرجة جعلت المعارضة التقليدية تتحمل مسؤوليتها الوطنية بدعمه ومساندته ومشاركته .
محمد افو