يومي الأول في سينِي،
في مثل هذا اليوم قبل 4 أعوام، الخميس 19 يوليو 2018، اتصل بي على الهاتف الأخ العزيز، الأستاذ سيدي محمد ولد محم حفظه الله ورعاه، مباركا ومهنئا برئاسة اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات. وبعد اتصاله بساعات معدودة صدر مرسوم بتعييني عضوا في اللجنة خلفا لفضيلة القاضي ديدي ولد بونعامه، رحمه الله.
كان الموعد مع المجلس الدستوري لتأدية القسم يوم الجمعة 20 يوليو 2018 . بدأت أستعد لذلك اللقاء منذ الصباح الباكر. نفضت الغبار عن أحسن بذلة كنت ألبسها في المناسبات الكبرى يوم كنت وزيرا للخارجية. وطلبت من صديقي محمود - وهو غسّال بجوار المنزل - إعادة كيّها بسرعة.. لبستها قوق قميص أبيض ناصح وربطة عنق زرقاء. وصقلت الحذاء. وتوكلت على الله.
وفي الساعة 11 و45 د. أخذني أخي الأصغر ومعاوني الأقرب المختار الشيخ ولد صيبوط في سيارته المتهالكة رغم ما بذله من جهد لتنظيفها وتحسين صورتها، واتجهنا معًا صوب المجلس الدستوري. تأخرت عمدًا عن الموعد بدقائق إظهارًا للتريث والتمهل في محاولة لإخفاء ما بداخلي من سرور ممزوج بالخوف من عدم النجاح.
كان في استقبالي لدى الباب السيد الرئيس اسغير ولد امبارك، حفظه الله و رعاه. وفي لحظة اللقاء والعناق، انتابني شعور غريب. عادت بي الذاكرة إلى يوم دخلت مكتبه في الوزارة الأولى وخرجت منه حاملا حقيبة الخارجية والتعاون، يوم السبت 13 نوفمبر 2003. قلت في نفسي: سبحان الله العظيم؛ في كل مرة يتم استدعائ لمنصب رفيع، يكون هذا الرجل في طريقي!؟ جلست معه قليلا في مكتبه قبل أن نتجه معًا إلى الجماعة.
كانت القاعة مزدحمة. ألقيت نظرة خفية وسريعة على الجمهور، ولاحظت حضور أعضاء اللجنة والأهل والأقرباء بكثرة والأصدقاء والمناوئين والاعلاميين والفضوليين. ولفت انتباهي بشكل خاص حضور أقوام هجروني مذ ذهب عني "نور" السلطة قبل ذلك ب6 سنوات.
وقفت أمام المكرفون، و بدأت قراءة اليمين القانونية؛ ولكني أمام جدية اللحظة وخطورتها، شعرت أن صوتي يرتجف قليلاً ونسيت أن أرفع يدي اليمنى. نبهني السيد الرئيس، وصححت الخطأ. انتهى الحفل حوالي الساعة الواحدة. وكنت على موعد مع الحكماء بعد صلاة العصر من نفس اليوم في مقر اللجنة لمباشرة عملية التصويت على الرئيس.
عدت إلى البيت وقضيت ساعات القيلولة محاطا بأفواج المهنئين والمهللين، والمطبلين، إلخ.. وبعد صلاة العصر دخلت مقر اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات (سَيني)، واستقبلني السيد الفاضل الدان ولد الدّي ولد اسويد أحمد، مدير المراسم والعلاقات العامة، ورافقني إلى قاعة اجتماع الحكماء.
دخلت على الجماعة وقلبي ينبض بمزيج من الخوف والرجاء. قرأت بسرعة ملامح الوجوه. سبعة (7) رجال وثلاث (3) نساء، فضلا عن الأخ الكريم أحمد خيرو (أحمد اتراوري)، الأمين العام للجنة، الرجل الرزين والناصح الأمين. وما إن جلست مكاني عن يمين نائب الرئيس والرئيس وكالة الأستاذ والأخ الفاضل عثمان ول بيدل، حتى بدأتُ أتخَيل مطبات الطريق. افتتح الرئيس عثمان الجلسة، وأدارها بجدارة. كان جدول الأعمال من نقطة واحدة: انتخاب رئيس اللجنة. وسأل: من يترشح؟ رفعت يدي، وكنت المترشح الوحيد. وُضع صندوق الاقتراع على الطاولة. وصوت الحكماء لصالحي بالإجماع في جو مفعم بأريحية ودعابة الأخ د. سيدي عبد الله ولد المحبوبي، الجامع بين براعة أهل "إگيدي" وبلاغة أهل "آفطوط". قلت كلمة شكر مقتضبة، وذهبت مباشرة بعدها إلى المكتب.
في الأثناء، شعرت بإحساس عجيب؛ وهو أن كل شيء تغيّر في حياتي بسِحر هذه اللحظة. وجدتُ نفسي - ولأول مرّة في حياتي - رئيسا لا مرؤوسا، فوق الجميع وليس فوقي إلاّ الله وحده. وهذا التحول الخطير جعلني أرتعد و أرتجف. قبل اليوم، كنت دائما إمّا تحت "زعيم" اخترته لنفسي، وإمّا تحت رئيس أو وزير تم فرضه علي. ومن لحظة انتخابي رئيسا للجنة، شعرت بالوقوف بمفردي. لا وصاية عليّ ولا سلطة لأحد. بالطبع، هناك لجنة الحكماء، وهي الرئيس الفِعلي والمسؤول الأول والأخير عن الانتخابات، ولكن سلطتها الجماعية لا يتم التعبير عنها في كل التفاصيل والجزيئات والقرارات المستعجلة. هذا هو أول شعور راودني عند دخولي مكتب الرئيس، والذي أصبح مكتبي لمدّة 5 سنوات.
جلست في المكتب وحدي.. غمضت عيني وقلت في نفسي: استرخِ ولا تخف؛ إنما الحياة رحلة. اخطُ إلى الأمام. ولا تقلق ولا تكتئب. الأوقات الصعبة ستنقضي، وستنجح بإذن الله. لا تبتئس بما يردده المثبطون والمحبطون. قف على قدميك وانهض.
خاطبت نفسي بهذه الكلمات في لحظات وهم وحلم وخيال.. وما لبثت أن استيقظت على الواقع المر. القضية هنا ليست رحلة ولا نزهة يا هذا؛ بل سباق مع الزمن وتحد عظيم:
- 26 يوما فقط تفصلنا عن انطلاق الحملة الانتخابية،
- 40 يوما تفصلنا عن الاقتراع،
- 5 اقتراعات في اقتراع واحد،
- أكثر من 100 لائحة متنافسة،
- الموسم موسم أمطار،
- ومناخ سياسي مأزوم.
كيف الخروج من هذا المأزق بأقل الأضرار ؟
استلهمتُ العون من الله، وجاءني الجواب:
: "وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْر۪ىٰهَا وَمُرْسَىٰهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ".
- يتواصل -
يومي الأول في سينِي / محمد فال ولد بلال