على غير عادة الخطابات الرئاسية المهادنة للحزب الحاكم و المسايرة لأهواء حكوماتها جاء خطاب فخامة رئيس الجمهورية بمناسبة تخرج دفعة جديدة من المدرسة الوطنية للإدارة هي الأكبر و الأكثر تنوعا منذ تأسست المدرسة.
كان خطابا ينزل للقاعدة و يحاكم القمة، خطابا يغربل التفاصيل و يتساءل عن المحاصيل، يبدو الرئيس فيه كمحام عن المواطن رغم موقعه التنفيذي الأول.
هزة في التعبير عن الحالة الإرتجالية في التسيير التي أعتدناها من الوزراء و المدراء، و مسحة من الواقعية في قراءة الوضع تأتي هذه المرة من رأس السلطة.
وقفة تأملية في جدوائية العمل و مردوديته على واقع يزداد قتامة كلما أقتربت منه، و يتراءى فيه المواطن البسيط وهو حائر في يومياته اتراجيدية، و يكاد يفقد الأمل في التغيير.
طرح الرئيس بعض أسئلة المواطنين التي تلامس حاجياتهم الضرورية و غابت عنه أسئلة اخرى أكثر إلحاحا أو غُيبت، ربما لأن بعضها يخالف قواميس المنطق السياسي الذي يسعى لتبني قضايا الشعب، فأسئلة المواطنين الملحة تجعل العلاقة بين الوطن و المواطنة مجرد تشابه في حروف الهجاء.
خرجت الحروف في الخطاب كأنها قصيدة حزن تتأوه على نكبات الدهر، و تدحرجت على وجوه الحضور كأنها قطرات من الأسى.
بحث الرئيس عن المواطن في سجلات الإدارة، فلم يجد له سوى طوابير من الإنتظار و أصوات قد بحت قبل أن تصل ضواحي القصر الرئاسي.
تفاصيل صغيرة جدا، أتى بها فخامة رئيس الجمهورية في خطابه، لم يكن من المتوقع أن تحتل حيزا في خطاب موجه لأطر الشعب.
فسحب مستخرج من وكالات الإحصاء، و قطع الماء و الكهرباء في عطل الأسبوع، لم تكن لتصل إلى أعلى قمة في الدولة، و هي أحداث يعيشها المواطن يوميا يئس من تغييرها.
أما و قد وصلت!؟، فتلك إذن إختلالات عميقة تجعل وكلاء الإدارات ينتبهون لما يقومون به من تلاعب بمصالح المواطن، ليس فقط من خلال أناته اليومية التي لم يعتادوا التعاطف معها، و لا من خلال المعارضة التي يعتبرون إنتقادها مجرد فقاعات سياسية مضللة، بل من طرف من إئتمن مدراءهم و وزراءهم ، فخامة رئيس الجمهورية.
إنتهى الخطاب و بدأت ردت الفعل تتسارع حوله، و تبعت الخطاب إجراءت ميدانية زادته سخونة.
إجتماعات طارئة بالولاة و الداخلية، و بين وكيل الجمهورية و مفتشية الدولة و مدير شرطة الجرائم الإقتصادية.
لقد أخذت تفاصيل يوميات المواطن حظها من الكلام بعد أن كانت مجرد تهافتات مهملة لا يسمع لها صوت.
بدأت الإدارات تعيد تموقها مع ذاتها و مع مواطن لم تقترب منه يوما.
خصوصا تلك التي شملتها التفاصيل الصغيرة، و بدأت في اتخاذ اجراءات تساير الخطاب و تتبناه.
و تلك عادة أعتدناها في كل الحكومات و إداراتها، حيث تراقب بوصلة إهتمام الرئيس لتلوح بيدها اتجاهها و تفسد باليد الأخرى ما استطاعات في اتجاهات اخرى مظلمة لم يسلط عليها الضوء.