ينظر المؤرخون إلى الحرب العالمية الثانية والنتائج التي تمخضت عنها بإعتبارها نقطة تحول مفصلية في تاريخ العلاقة بين فرنسا و مستعمراتها الإفريقية.
ويعود ذلك إلى إنتشار الوعي السياسي في صفوف النخب الإفريقية خلال هذه المرحلة و ما تلاه من تداعيات علي المستوي الداخلي والخارجي ساهم في تشكيل حركات وطنية إفريقية رفعت شعار المطالبة بالإستقلال عن المستعمر الفرنسي وتحقيق الإصلاحات
المطلوبة في المجالات كافة للتخفيف من الآثار السلبية للإستعمار و سياساته داخل القارة الإفريقية بصفة عامة.
وفي موريتانيا التي شكلت جزءا مهمًا من هذا المشهد كانت الحركة الوطنية فيها نشطة منذ العام 1946م ، حيث ركزت مطالبها في مرحلة أولى على ضرورة تطبيق الإصلاحات
عبر ممارسة حق الإنتخاب و تشكيل المجالس المحلية بموجب دستور الجمهورية
الفرنسية الرابعة الصادر خلال نفس السنة قبل ان تنتقل
هذه المطالب نحو ما هو أهم
تحقيق الإستقلال و الإنفصال
عن الدولة الفرنسية في مرحلة ثانية.
لقد أسفر هذا الحراك السياسي عن إنتخاب الزعيم أحمدو بن حرمة بابانا مندوبا عن موريتانيا
لدى الجمعية الفرنسية
بعد فوزه على منافسه حاكم منطقة أترارزة آنذاك إيفون رازاك الذي ترشح للمنصب بإيعاز
من القوة التقليدية الموالية للإدارة الأستعمارية .
وهكذا مكنت هذه المرحلة من النضال الوطني من المساهمة في تأسيس الأحزاب السياسية في البلاد التي أخذت على عاتقها مواصلة العمل الوطني بجد لقيادة المفاوضات مع المحتل
من أجل تحقيق الإستقلال الوطني بصفة نهائية.
ومن أهم هذه الأحزاب نذكر
على سبيل المثال لا الحصر، الحزب التقدمي الموريتاني و حزب الوفاق الوطني و حزب النهضة ، بالإضافة الى تشكيلات
سياسية أخرى لا تقل أهمية مثل الإتحاد العام لمنحديري ضفة النهر ورابطة الشباب الموريتاني و غيرها.
في هذا السياق، يمكن القول إن قانون الإطار الصادر سنة 1956م في ظل حكومة كي مولي( Gey moulet) الفرنسية قد وفر الأسس الموضوعية
لتأسيس الجمعية الإقليمية في شهر مارس 1957م، و هو ما سمح بتشكيل حكومة جديدة عين المختار بن داداه نائبًا لرئيسها في مايو من نفس السنة. و يعتبر الكثير من المتابعين للشأن السياسي
في موريتانيا أن سنة 1958م التي شهدت إنعقاد مؤتمر ألاك من2 إلى 5 مايو بأنها سنة التحول السياسي ، حيث عرفت البلاد صدور اول دستور لها
سنة 1959م .
و على الرغم من إختلاف مشارب النخب السياسية و التشكيلات القبلية و العرقية التي حضرت هذا المؤتمر وتباين وجهات نظرها في الطرح السياسي
التي اوصلتها الى حد
القطيعة أحيانا ، فإن الجميع أنساق في النهاية وراء
المطلب الجوهري و الإستيراتيجي الوحيد المتمثل في توحيد الجبهة الداخلية و تحقيق إستقلال البلاد و الدفاع عن وحدتها وحوزتها الترابية.
فلم يعترض أمراء البلاد التي
قوضت السلطة الإستعمارية نظام حكمهم و أضعفت نفوذهم، على المسار السياسي الذي أدى إلي تشكيل اول حكومة موريتانية للدولة المستقلة سنة 1960م، رغم أنها لم تكن تلبي الطموحات بالنسبة للبعض.
كما لم يتم الخروج على قراراتها بعد أن قضت على التعددية السياسية بإعتمادها لمبدأ الحزب الواحد ( حزب الدولة).
ضف إلي ذلك أن قبائل الشوكة القوية أنذاك في تكانت و لعصابة و الحوضين و حلفائها لم تطالب بالإنفصال لمجرد أن الرئيس
الجديد لا ينتمي لمحيطها
الإجتماعي و حيزها الجغرافي و ظلت في تناغم تام مع كل القرارات و التوجيهات التي تصدر من مختلف الأنظمة التي تعاقبت على حكم الدولة منذ الإستقلال إلى الأمس القريب رغم إمتلاكها لأساس الثروة وتعدادها السكاني المرتفع جدا.
اليوم ، بعد إنقضاء أكثر من ست عقود من عمر الدولة المدنية المستقلة الحديثة ، نطالع في وسائل التواصل الإجتماعي للأسف الشديد بعض الاصوات
النشاز التي تدعوا تارة الى
انفصال شمال البلاد عن جنوبها، وترفع تارة مطلب الإستقلال لمدن الضفة، و تقوم طورا آخر برسم صورة قاتمة للوضع الإقتصادي و الأجتماعي و الأمني للبلد مشككةفي قدرة نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على تجاوز التحديات التي ورثها عن نظام العشرية
الماضية.
وبما أننا لا نتوافق مع هذا الطرح
الأحادي غير الواقعي الذي لا يعبر عن رأي طيف واسع من الموريتانيين لأسباب عديدة يضيق المقام عن ذكرها ،
فإننا مع ذلك نعترف بأن البلاد كانت بحاجة منذ بعض الوقت إلي اصلاحات جذرية وعاجلة
من أجل التغلب على المشاكل المتراكمة الناجمة عن تأثير السياسات العمومية الفاشلة التي أضرت كثيرًا بقطاعات حيوية
كالتعليم و الصحة والفلاحة و التشغيل و العمران و البنية التحتية وغيرها…
لقد أدرك رئيس الجمهورية هذه
الحقيقة مبكرًا من خلال التشخيص الموضوعي
الذي أعده أثناء الحملة الرئاسية
حول رؤيته لحل المشاكل المطروحة والتي تضمنها برنامج
تعهداته للشعب الموريتاني.
ومن أجل إنصاف الرجل في هذا المقام يجدر بنا التذكير بما يلي :
– أولًا: أن ترشحه لرئاسة الجمهورية شكل إجماعًا وطنيًا بين المؤسسة العسكرية
والنخب السياسية المدنية ومختلف القوي التقليدية
بإعتباره رجل هذه المرحلة ، نظرًا
لحنكته السياسية و خبرته الميدانية بدهاليز الحكم و إكراهاته. وقد عول عليه من طرف الجميع لإخراج البلد من أزمته السياسية بعد أن تم القضاء على اول تجربة في انتخابات سياسية
نزيهة و شفافة بعد
الإطاحة بنظام الرئيس الراحل
سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله رحمه الله سنة 2008 م.
– ثانيا: كون الرجل نجح فعلا في إعادة الثقة بين الدولة ومواطنيها مدشنا بذلك
عهدًا جديدًا من التهدئة السياسية بين جميع الفرقاء ، مما عزز إمكانية القيام بحوار وطني شامل لحل كل القضايا
العالقة.
– ثالثا: لقد تمكن الرئيس من إطلاق مشاريع مهمة و في مناح شتى لامست هموم المواطنين
خاصة الفئات الهشة رغم تعقيدات الوضع الاقتصادي
الدولي و تأثيرات جائحة كوفيد-١٩ السلبية على
إقتصاد البلد الذي
كان يعاني في الأصل من عيوب واختلالات هيكلية جسيمة موروثة عن النظام السابق.
– رابعا: إن إنقضاء ما يقارب سنتين من مأمورية الرئيس فترة غير كافية لتقويم ادائه وحصر
إنجازاته في مجالات متعددة اقتصاديا واجتماعيا.
– خامسا: سعي الرئيس إلي تحقيق الهدف الكبير لمتمثل في جمع كل الموريتانيين بجميع مكوناتهم و إشراكهم في إدارة البلاد و هو ما يحتم عليه التعاطي بمرونة مع مطلب مسح الطاولة الذي يطالب به البعض .
وهنا فإن إختيار المعاونين يظل حقًا دستوريًا يدحل ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية .
وخلاصة القول أنه إذا كان الموريتانيون يريدون حقًا الإنخراط في بناء دولة
مدنية عصرية و متطورة فإنهم مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضي
بالإرتقاء بالخطاب السياسي عن
الولاءات الضيقة القبلية و الجهوية والفئوية والشرائحية المقيتة كما يتعين عليهم ان يضربوا المثل الحسن كل حسب موقعه في القطيعة النهائية مع ممارسات الماضي المشينة عبر القضاء على كل اشكال الفساد والرشوة و الزبونية و المحسوبية التي لا يستقيم معها أي بناء
يراد له البقاء.
وفي هذا الصدد ، يجب علينا جميعًا التمسك بالأمل الذي هو مفتاح المستقبل وذلك فقط
بإستخدام العقول كمصرد رئيسي للثروة و تغيير العقليات المعيقة للتطور.
الدولة الموريتانية بين إكراهات التأسيس..ومتطلبات التطور / محمد الراظي ولد صدفن