موريتانيا: التاريخ العريق في الفشل الزراعي .....(راي حر)

12. يوليو 2021 - 7:49

شعرت وأنا أراجع معطيات الإنتاج الزراعي في عدد من دول غرب إفريقيا ,لمقارنتها بإنتاج بلادنا، شعرت بصدمة كبيرة من مدى الهوة المفزعة بيننا وبين دول المنطقة ,خاصة تلك الأفقر منا، حيث لا يتجاوز إنتاج موريتانيا مثلا من الحبوب نحو 4% من إنتاج مالي 11% من إنتاج السنغال..!

فهل لهذا الفشل الزراعي جذور في تاريخنا ,تساعد في تفسيره، وليس في تبريره؟

ذلك ما نحاول أن نتصدى له, سابحين عبر موجات التاريخ العاتية.

تقول النظرية السائدة بين علماء التاريخ إن ما يعرف اليوم بالصحراء الكبرى في إفريقيا كانت أراضي خصبة عامرة تشقها الأنهار ,وتنتشر فيها الغابات,وتكثر فيها الحيوانات الضخمة ,كالفيلة والزرافات..الخ.

وخلال فترات تغير المناخ, وتحول المنطقة إلى الجفاف، زحف سكان ما سيعرف لاحقا بالصحراء الكبرى في اتجاهين مختلفين: مصر وغرب إفريقيا.

ويعتقد هؤلاء المؤرخون أن سكان مصر القديمة, أو بعضهم على الأقل, ينحدرون من هذه الموجات البشرية ,تماما مثل سكان غرب إفريقيا القدماء.

وقد وجدت الموجات البشرية أمامها ,في كل من مصر وغرب إفريقيا, الظروف المثالية للزراعة والحياة الاقتصادية المنتجة.

وكان للمستوطنين الجدد في مصر فضل استغلال هذه المعطيات ,بإنشاء زراعة مزدهرة, قامت عليها حضارة متطورة, أمدت البشرية بالكثير من إنجازاتها المتميزة.

أما في غرب إفريقيا ,فقد ظلت الأنهار في هذه المنطقة مهدورة, لم تنشأ عليها زراعة متطورة أو حضارة ,كتلك التي نشأت على الأنهار في مصر والشام والعراق واليونان.

وهذا الأمر يدفع إلى طرح سؤال غدا يفرض نفسه بإلحاح:

ما الذي جعل المجموعة البشرية نفسها، أي سكان منطقة الصحراء الكبرى، تنجح في إنشاء زراعة متطورة في مصر، وتفشل في ذلك في غرب إفريقيا ,مع تشابه عوامل الإنتاج, والظروف البيئية في المنطقتين؟.

تصدى للإجابة عن السؤال مؤرخ هندي مرموق في كتابه القيم: "الإسلام والوثنية في غرب إفريقيا".

وخلاصة ما ذهب إليه هذا المؤرخ الكبير ,هو أن الذهب وتجارة الرقيق هما أهم أسباب الفشل الزراعي التاريخي في غرب إفريقيا.

فقد وفر الذهب وتجارة الرقيق لخزائن حكام المنطقة مداخيل مالية مجزية, أغنت هؤلاء الحكام عن الاهتمام بإقامة المنشآت الزراعية.

وهذا يدفعنا إلى طرح سؤالين آخرين لا نملك جرأة الإجابة عليهما:

هل ساهمت مداخيل الدولة الموريتانية من المعادن والسمك في صرف انتباه حكامنا عن إعطاء الإنتاج الزراعي الأولية التي يستحقها؟

وهل ساهم غياب مثل هذه المداخيل في جارتينا الجنوبيتين في دفع حكامهما إلى منح الأولوية المطلقة للزارعة؟

كل ما أستطيع مساعدة القارئ به في الإجابة على هذين السؤالين هو تذكيره بتجربة جارتينا الشماليتين:

فقد كانت الجزائر منذ استقلالها تملك مداخيل ضخمة من صادراتها من الطاقة, وقد عرفت بالتركيز على الصناعة على حساب الزراعة ,قبل أن تعدل من سياساتها الزراعية في العقد الأخير, بعد موجات التقلب في أسعار النفط.

أما المغرب فكان يفتقر إلى مثل هذه المداخيل الكبيرة من الطاقة، وكان تركيز ملكه الحسن الثاني "على تشييد السدود لزراعة الطماطم" على حد تعبيره هو نفسه في كتابه: "ذاكرة ملك".

وهكذا رأت التجربة المغربية الزراعية الرائدة النور ,وتفتقت عن ازدهار اقتصادي ,أنتج استقرارا سياسيا , بينما ترنحت الجزائر في إخفاقاتها الإقتصادية التي أدت إلى الإنفجار الإجتماعي, والحرب الأهلية في التسعينات.

فهل الثروات الطبيعة عدوة الزراعة ?

الإجابة تتطلب بحثا عميقا ليس المقام مقامه.

هذا عن جذور الفشل الزراعي في غرب إفريقيا عموما, الذي يبدو أن دول المنطقة أخذت, خلال العقد الأخير, على الأقل,في التحرر من عقدته باستثناء "البلاد السائبة".

فماذا عن الإشارات التاريخية الخاصة بمظاهر الفشل الزراعي في بلادنا؟

يقول ابن حوقل (القرن الرابع الهجري) في كتابه: "صورة الأرض"، إن سكان هذه المنطقة "لم يعرفوا البر (القمح) ولا الشعير إلا في الذكر".

بينما يقول عنهم البكري (القرن الخامس الهجري) "وطعام ملوكهم البر".

ويظهر أن القمح ظل مادة نادرة لا تقدم إلا لخواص الخواص, وذلك حتى منتصف القرن العشرين، فقد أدركنا الجيل الذي قبلنا ,لا يأتي على ذكر القمح في رواياته ,إلا عند ما يتحدث عن الضيافة التي تقدم للوفود المرموقة (الصربه).

بل إننا عايشنا ,في صبانا,خلال الستينات, فترة من السنة لا يجد فيها السكان من الغذاء إلا ألبان حيواناتهم، وهي فترة الخريف، قبيل حصاد الموسم الجديد, وحيث يكون المخزن من حبوب الموسم الماضي قد نفد.

وكثيرة هي الفترات التي كان السكان يعتمدون فيها على ما يجمعونه من ثمار الأشجار والنباتات البرية مثل: النبق –إمجيج –توكه –أيزن –آز. بل وحتى الحشرات ,مثل : الجراد-ادويده ,إلخ.

ويظهر أن الألبان كانت المادة الغذائية شبه الوحيدة لسكان بلادنا ,على مدى فترات طويلة عبر تاريخهم. فالرحالة الذين زاروا المنطقة لاحظوا اعتماد السكان على حيواناتهم "ألبانها غالبا، ولحومها نادرا".

كما لاحظ أحد الرحالة الغربيين إهمال "البيظان" لأراضيهم الزراعية الخصبة ,معيدا ذلك الإهمال إلى كسلهم، وهو تفسير لا نجاريه فيه, لأن المجهود الذي يبذله هؤلاء البداة في الانتجاع بمواشيهم، والمسافات الكبيرة التي يقطعونها وراءها,في ظروف بيئية قاسية ,تنفيان أية شبهة للكسل.

إنها عقدة الموريتانيين التاريخية مع الزراعة ,التي تجعلها في دعوتهم الغاضبة قرينة الموت: "الله إورثك وإحرثك".

وبالمجمل فإن المتتبع للتاريخ الاقتصادي لبلادنا, عبر مراحل مختلفة، يدرك أنه ظل دائما اقتصاد جمع ونقل، لا اقتصاد خلق وإبداع.

فكل ما حدث، في عهد الدولة الحديثة، أننا انتقلنا من جمع الملح والصمغ وبيض النعام, إلى جمع السمك والحديد والنحاس والذهب.

كما انتقلنا من نقل الأقمشة والرقيق إلى نقل الصحون والأفرشة والسيارات.

فمتى نتحرر من عقدتنا الزراعية؟ أم على قلوب أقفالها؟

اللهم امنن علينا بنخبة تكون لها وأهلها، ولا تهلكنا بذنوبنا، ولا بذنوب غيرنا، ولا بما فعل السفهاء منها.

تابعونا